الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في الرجل يسلم في الركعتين من الظهر والعصر

                                                                                                          399 حدثنا الأنصاري حدثنا معن حدثنا مالك عن أيوب بن أبي تميمة وهو أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف من اثنتين فقال له ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق ذو اليدين فقال الناس نعم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى اثنتين أخريين ثم سلم ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم كبر فرفع ثم سجد مثل سجوده أو أطول قال أبو عيسى وفي الباب عن عمران بن حصين وابن عمر وذي اليدين قال أبو عيسى وحديث أبي هريرة حديث حسن صحيح واختلف أهل العلم في هذا الحديث فقال بعض أهل الكوفة إذا تكلم في الصلاة ناسيا أو جاهلا أو ما كان فإنه يعيد الصلاة واعتلوا بأن هذا الحديث كان قبل تحريم الكلام في الصلاة قال وأما الشافعي فرأى هذا حديثا صحيحا فقال به وقال هذا أصح من الحديث الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصائم إذا أكل ناسيا فإنه لا يقضي وإنما هو رزق رزقه الله قال الشافعي وفرق هؤلاء بين العمد والنسيان في أكل الصائم بحديث أبي هريرة وقال أحمد في حديث أبي هريرة إن تكلم الإمام في شيء من صلاته وهو يرى أنه قد أكملها ثم علم أنه لم يكملها يتم صلاته ومن تكلم خلف الإمام وهو يعلم أن عليه بقية من الصلاة فعليه أن يستقبلها واحتج بأن الفرائض كانت تزاد وتنقص على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما تكلم ذو اليدين وهو على يقين من صلاته أنها تمت وليس هكذا اليوم ليس لأحد أن يتكلم على معنى ما تكلم ذو اليدين لأن الفرائض اليوم لا يزاد فيها ولا ينقص قال أحمد نحوا من هذا الكلام وقال إسحق نحو قول أحمد في هذا الباب

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( حدثنا الأنصاري ) هو إسحاق بن موسى الأنصاري ( انصرف من اثنتين ) أي ركعتين اثنتين من الصلاة الرباعية وكانت إحدى صلاتي العشي على ما جاء في لفظ البخاري : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي ، قال ابن سيرين سماها أبو هريرة ولكن نسيت أنا وفي رواية أيوب عن محمد : أكبر ظني أنها الظهر ، وكذا ذكره البخاري في الأدب ، وفي الموطأ : [ ص: 350 ] العصر قاله العيني ، قلت : قد وقع في شرحه المطبوع وكانت إحدى صلاتي العشاء وهو وهم ، والصواب العشي لا العشاء ( فقال له ذو اليدين ) قال الحافظ : ذهب الأكثر إلى أن اسم ذي اليدين الخرباق بكسر المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة وآخره قاف اعتمادا على ما وقع في حديث عمران بن حصين عند مسلم ولفظه : فقام إليه رجل يقال له الخرباق وكان في يديه طول ، وهذا صنيع من يوجد حديث أبي هريرة بحديث عمران وهو الراجح في نظري ، وإن كان ابن خزيمة ومن تبعه جنحوا إلى التعدد ، والحامل لهم على ذلك الاختلاف الواقع في السياقين ، ففي حديث أبي هريرة أن السلام وقع من اثنتين ، وأنه صلى الله عليه وسلم قام إلى خشبة في المسجد . وفي حديث عمران أنه سلم من ثلاث ركعات وأنه دخل منزله لما فرغ من الصلاة ، فأما الأول فقد حكى العلائي أن بعض شيوخه حمله على أن المراد به أنه سلم في ابتداء الركعة الثالثة واستبعده ، ولكن طريق الجمع يكتفى فيها بأدنى مناسبة ، وليس بأبعد من دعوى تعدد القصة فإنه يلزم منه كون ذي اليدين في كل مرة استفهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، واستفهم النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة عن صحة قوله . وأما الثاني فلعل الراوي لما رآه تقدم من مكانه إلى جهة الخشبة ظن أنه دخل منزله لكون الخشبة كانت في جهة منزله فإن كان كذلك ، وإلا فرواية أبي هريرة أرجح لموافقة ابن عمر له على سياقه ، كما أخرجه الشافعي وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة ، ولموافقة ذي اليدين نفسه له على سياقه ، كما أخرجه أبو بكر الأثرم وعبد الله بن أحمد في زيادات المسند وأبو بكر بن حثمة وغيرهم ، وقد تقدم في باب تشبيك الأصابع ما يدل على أن محمد بن سيرين راوي الحديث عن أبي هريرة كان يرى التوحيد بينهما ، وذلك أنه قال في آخر حديث أبي هريرة : نبئت أن عمران بن حصين قال ثم سلم ، انتهى كلام الحافظ .

                                                                                                          ( أقصرت الصلاة ) بهمزة الاستفهام وقصرت بضم القاف وكسر المهملة على البناء للمفعول أي أن الله قصرها وبفتح ، ثم ضم على البناء للفاعل أي صارت قصيرة قال النووي هذا أكثر وأرجح ( أم نسيت يا رسول الله ) حصر في الأمرين ؛ لأن السبب إما من الله وهو القصر أو من النبي صلى الله عليه وسلم وهو النسيان ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق ذو اليدين ؟ ) الهمزة للاستفهام أي أصدق في النقض الذي هو سبب السؤال المأخوذ من مفهوم الاستفهام ( فقال الناس نعم ) أي صدق ( فصلى اثنتين ) أي ركعتين ( أخريين ) بضم الهمزة وسكون الخاء المعجمة ومثناة مفتوحة وأخرى ساكنة تحتيتين ( ، ثم كبر فسجد ) أي للسهو ( مثل سجوده ) السابق في صلاته ( أو أطول ) من سجوده السابق ( ثم كبر [ ص: 351 ] فرفع ) أي رأسه ( ثم سجد ) أي مرة ثانية ( مثل سجوده أو أطول ) فسجد للسهو سجدتين بعد السلام ، وفي رواية للبخاري من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة قال : صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ركعتين فقيل صليت ركعتين فصلى ركعتين ، ثم سلم ، ثم سجد سجدتين . والحديث دليل لمن قال إن من يسلم في الركعتين من الظهر والعصر ناسيا يصلي ركعتين أخريين ، ثم يسلم ، ثم يسجد سجدتين للسهو ولا حاجة إلى إعادة الصلاة .

                                                                                                          قوله : ( وفي الباب عن عمران بن حصين وابن عمر وذي اليدين ) أما حديث عمران بن حصين فأخرجه الجماعة إلا البخاري والترمذي عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العصر فسلم في ثلاث ركعات ، ثم دخل منزله ، وفي لفظ فدخل الحجرة فقام إليه رجل يقال له الخرباق وكان في يده طول ، فقال : يا رسول الله ، فذكر له صنيعه فخرج غضبان يجر رداءه حتى انتهى إلى الناس ، فقال : أصدق هذا ؟ قالوا : نعم ، فصلى ركعة ، ثم سلم ، ثم سجد سجدتين ، ثم سلم . وأما حديث ابن عمر فأخرجه أبو داود عنه ، قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم في الركعتين فذكر نحو حديث ابن سيرين عن أبي هريرة قال : ثم سلم ، ثم سجد سجدتي السهو ، والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري وأخرجه ابن ماجه بلفظ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سها فسلم في الركعتين ، فقال له رجل يقال له ذو اليدين : يا رسول الله أقصرت أم نسيت ؟ قال : ما قصرت وما نسيت ، قال : إذا فصليت ركعتين ، قال : أكما يقول ذو اليدين ؟ قالوا : نعم ، فتقدم فصلى ركعتين ، ثم سلم ، ثم سجد سجدتي السهو ، وأما حديث ذي اليدين فأخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند ص 77 والبيهقي ، وفي الباب أيضا عن ابن عباس عند البزار في مسنده والطبراني ، وعن عبد الله بن مسعدة عند الطبراني في الأوسط ، وعن معاوية بن خديج عند أبي داود والنسائي وعن أبي العريان عند الطبراني في الكبير ، قال ابن عبد البر في التمهيد : وقد قيل إن أبا العريان المذكور هو أبو هريرة . وقال النووي في الخلاصة : إن ذا اليدين يكنى بالعريان . قال العراقي : كلا القولين غير صحيح وأبو العريان صحابي آخر لا يعرف اسمه ذكره الطبراني فيهم في الكنى ، وكذلك أورده أبو موسى المديني في ذيله على ابن منده في الصحابة .

                                                                                                          قوله : ( حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح ) وأخرجه الشيخان وغيرهما قال في التلخيص : لهذا الحديث طرق كثيرة وألفاظ وقد جمع جميع طرقه الحافظ صلاح الدين العلائي وتكلم عليه كلاما شافيا ، انتهى .

                                                                                                          [ ص: 352 ] قوله : ( واختلف أهل العلم في هذا الحديث فقال بعض أهل الكوفة : إذا تكلم في الصلاة ناسيا أو جاهلا أو ما كان فإنه يعيد الصلاة ، واعتلوا بأن هذا الحديث كان قبل تحريم الكلام في الصلاة ) قال صاحب آثار السنن ما محصله : إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان حاضرا في حادثة ذي اليدين فقد وقع في رواية الشيخين وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه إلخ ، فحضوره في تلك الحادثة يدل على أنها كانت حين كان الكلام مباحا في الصلاة ؛ لأن عمر بن الخطاب قد حدث به تلك الحادثة بعد النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته ، وفعل فيها بخلاف ما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذي اليدين . أخرج الطحاوي في معاني الآثار بإسناده عن عطاء قال : صلى عمر بن الخطاب بأصحابه فسلم في الركعتين ، ثم انصرف فقيل له في ذلك فقال : إني جهزت عيرا من العراق بأحمالها وأقتابها حتى وردت المدينة فصلى بهم أربع ركعات قاله : هذا مرسل جيد .

                                                                                                          قلت : ليس هذا مرسلا جيدا بل هو من أضعف المراسيل . قال الحافظ الذهبي في الميزان في ترجمة عطاء : قال أحمد : ليس في المرسل أضعف من مرسل الحسن وعطاء يأخذان عن كل أحد ، انتهى . فمرسل عطاء هذا لا يصح للاستدلال على أن قصة ذي اليدين كانت حين كان الكلام مباحا ، على أنه يحتمل أن عمر رضي الله عنه كان إذ ذاك قد ذهل عن قصة ذي اليدين كما كان قد ذهل عن قصة التيمم ولم يتذكر بتذكير عمار ، مع أنه حضر معه تلك القصة : وأيضا يحتمل أن عمر رضي الله عنه كان يرى أن من حدث به هذه الحادثة فله أن يستأنف الصلاة وله أن يبني ولم ير ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم واجبا ، فإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال ، ثم الظاهر أن عمر رضي الله عنه إنما أعاد الصلاة ؛ لأنه تكلم بعد الانصراف من الركعتين بكلام لم يكن مثل كلام النبي صلى الله عليه وسلم في قصة ذي اليدين حيث قال : إني جهزت عيرا من العراق بأحمالها وأقتابها حتى وردت المدينة فتفكر .

                                                                                                          قال النيموي : أحاديث أبي هريرة من مراسيل الصحابة فإنه لم يحضر قصة ذي اليدين ؛ لأن ذا اليدين قتل ببدر وكان إسلام أبي هريرة بعده عام خيبر سنة سبع من الهجرة .

                                                                                                          قلت : القول بأن أبا هريرة لم يحضر قصة ذي اليدين باطل قطعا فإنه قد ثبت حضوره قصة ذي اليدين بأحاديث صحيحة صريحة ، ففي رواية الشيخين وغيرهما : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية لمسلم وغيره : صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي رواية لمسلم وأحمد وغيرهما : بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                          [ ص: 353 ] وأما الاستدلال على عدم حضور أبي هريرة قصة ذي اليدين بأن ذا اليدين قتل ببدر وكان إسلام أبي هريرة بعده ففاسد ، فإن المقتول ببدر هو ذو الشمالين لا ذو اليدين : قال الحافظ ابن عبد البر في الاستذكار : وهو ( أي ذو اليدين ) غير ذي الشمالين المقتول ببدر بدليل ما في حديث أبي هريرة ومن ذكرها معه من حضورهم تلك الصلاة ممن كان إسلامه بعد بدر ، وقول أبي هريرة في حديث ذي اليدين : صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى بنا ، وبينما نحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محفوظ من نقل الحافظ ، وأما قول ابن شهاب الزهري إنه ذو الشمالين فلم يتابع عليه أحد ، وحمله الزهري على أنه المقتول يوم بدر وغلط فيه ، والغلط لا يسلم منه أحد ، انتهى .

                                                                                                          وقال صاحب التعليق الممجد : قال بعضهم : إن أبا هريرة لم يحضرها وإنما رواها مرسلا بدليل أن ذا الشمالين قتل يوم بدر وهو صاحب القصة ورده بأن رواية مسلم وغيره صريحة في حضور أبي هريرة تلك القصة ، والمقتول ببدر هو ذو الشمالين وصاحب القصة هو ذو اليدين وهو غيره ، انتهى .

                                                                                                          وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري : قوله صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر في أن أبا هريرة حضر القصة ، وحمله الطحاوي على المجاز فقال : إن المراد به صلى بالمسلمين ، ويدفع المجاز الذي ارتكبه الطحاوي ما رواه أحمد ومسلم وغيرهما من طريق يحيى بن كثير عن أبي سلمة في هذا الحديث عن أبي هريرة بلفظ : بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، انتهى .

                                                                                                          وقال البيهقي في المعرفة بأن هذا ترك الظاهر على أنه رواه يحيى بن كثير ، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجز في هذا القول معناه صلى بالمسلمين ، انتهى .

                                                                                                          قلت : رواية مسلم وأحمد بلفظ : بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نص صريح في حضور أبي هريرة قصة ذي اليدين ، وليس عند من ادعى عدم حضوره عن هذه الرواية الصحيحة الصريحة جواب شاف وقد اعترف به صاحب البحر من الحنفية ، وقد اعترف به صاحب العرف الشذي أيضا حيث قال : ولكن الطحاوي لم يجب عما في طريق مسلم عن أبي هريرة بينا أنا أصلي إلخ . وقال صاحب البحر : لم أجد جوابا شافيا عن هذه ، وقال ابن عابدين ما قال ، وتعجب من عدم جواب البحر ، أقول إن ابن عابدين غفل عما في مسلم فإن الرواية هاهنا أنا أصلي رواها مسلم ص 214 وأما أنا فلم أجد جوابا شافيا أيضا ، انتهى كلام صاحب العرف الشذي بلفظه .

                                                                                                          تنبيه : اعلم أن الحنفية لما عجزوا عن جواب رواية مسلم بلفظ : بينا أنا أصلي مع رسول الله [ ص: 354 ] صلى الله عليه وسلم اعترف بعضهم بعدم وجدان الجواب الشافي عنها ، وسعى بعضهم في إثبات الوهم فيها من الراوي ، فقال صاحب العرف الشذي بعد قوله : وأما أنا فلم أجد جوابا شافيا أيضا ما لفظه : إلا أن يحكم بأنه وهم الراوي ، فإنه لما رأى بينا نحن نصلي زعم كون أبي هريرة في الواقعة ، وأما وجه الوهم فلعله وهم من شيبان فإنه اختلط عليه حديثان ، فإنه روى حديث معاوية بن الحكم السلمي كما في مسلم ص 203 حديث العطاس وفيه : بينا أنا أصلي إذ عطس رجل وأخذ هذا اللفظ من هذا الحديث ووضعه بسبب الاختلاط في حديث ذي اليدين عن أبي هريرة في مسلم ص 214 ، انتهى كلامه .

                                                                                                          قلت : قوله : ( فإنه روى حديث معاوية بن الحكم السلمي كما في مسلم ) حديث العطاس ، وهم صريح ، فإن شيبان لم يرو حديث معاوية بن الحكم السلمي حديث العطاس ، فإن سنده في مسلم ص 213 هكذا : حدثنا أبو جعفر محمد بن الصباح وأبو بكر بن أبي شيبة وتقاربا في لفظ الحديث قالا : أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم عن حجاج الصواف ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن هلال بن أبي ميمون ، عن عطاء بن يسار ، عن معاوية بن الحكم السلمي ، قال : بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل إلخ فقوله ( وأخذ هذا اللفظ من هذا الحديث إلخ ) بناء الباطل على الباطل .

                                                                                                          والعجب من صاحب العرف الشذي كيف ارتكب الأمر القبيح لإثبات وهم الراوي في رواية مسلم الصحيحة .

                                                                                                          تنبيه آخر : قال النيموي : قوله : بينما أنا أصلي ليس بمحفوظ ولعل بعض رواة الحديث فهم من قول أبي هريرة صلى بنا أنه كان حاضرا فروى هذا الحديث بالمعنى على ما زعمه ، وقد أخرجه مسلم من خمس طرق فلفظه في طريقين : صلى بنا ، وفي طريق : صلى لنا ، وفي طريق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين ، وفي طريق : بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تفرد به يحيى بن أبي كثير وخالفه غير واحد من أصحاب أبي سلمة وأبي هريرة ، فكيف يقبل أن أبا هريرة قال في هذا الخبر : بينما أنا أصلي ، انتهى .

                                                                                                          قلت : يحيى بن أبي كثير ثقة ثبت متقن ، قال الحافظ في مقدمة الفتح : أحد الأئمة الثقات الأثبات . قال شعبة : حديث أحسن من حديث الزهري ، وقال في تهذيب التهذيب : وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه يحيى : من أثبت الناس إنما يعد مع الزهري ، ويحيى بن سعيد ، وإذا خالفه الزهري فالقول قول يحيى ، انتهى . فكيف لا يقبل ما تفرد به مثل هذا الثقة الثبت الذي هو من أثبت الناس وإذا خالفه الزهري فالقول قوله ، فقول النيموي قوله بينما أنا أصلي غير محفوظ مردود عليه .

                                                                                                          [ ص: 355 ] والحاصل أن رواية مسلم وأحمد بلفظ : بينما أنا أصلي صحيحة محفوظة وهي نص صريح في شهود أبي هريرة قصة ذي اليدين ، وليس لمن أنكر ذلك جواب شاف عن هذه الرواية .

                                                                                                          واعلم أن الحنفية قد استدلوا على عدم شهود أبي هريرة قصة ذي اليدين بثلاثة وجوه ذكرها النيموي في آثار السنن ، وكلها مخدوشة واهية فلنا أن نذكرها هاهنا مع بيان ما فيها من الخدشة .

                                                                                                          فقال النيموي : واستدل على ذلك بثلاثة وجوه : أحدها : أن ابن عمر نص بأن إسلام أبي هريرة كان بعدما قتل ذو اليدين . أخرجه الطحاوي في معاني الآثار فذكر بإسناده عن عبد الله العمري عن نافع عن ابن عمر أنه ذكر له حديث ذي اليدين فقال : كان إسلام أبي هريرة بعدما قتل ذو اليدين ، انتهى .

                                                                                                          قلت : هذه الرواية ضعيفة منكرة مخالفة لروايات الصحيحين وغيرهما ، تفرد بها عبد الله العمري وهو ضعيف ، قال الحافظ في التقريب : ضعيف عابد ، وقال في تهذيب التهذيب : قال الترمذي في العلل الكبير عن البخاري : ذاهب لا أروي عنه شيئا ، وقال البخاري في التاريخ : كان يحيى بن سعيد يضعفه ، انتهى . وقال الذهبي في الميزان : صدوق في حفظه شيء . وقال ابن المديني : عبد الله ضعيف ، وقال ابن حبان : كان ممن غلب عليه الصلاح والعبادة حتى غفل عن حفظ الأخبار وجودة الحفظ للآثار ، فلما فحش استحق الترك ، انتهى . فالاستدلال بهذه الرواية الضعيفة المنكرة على عدم شهود أبي هريرة قصة ذي اليدين ليس بشيء .

                                                                                                          قال النيموي في تصحيح هذه الرواية الضعيفة المنكرة ما لفظه : رجاله كلهم ثقات إلا العمري فاختلف فيه . قواه غير واحد من الأئمة وضعفه النسائي وابن حبان وغيرهما من المتشددين ، وتبعهم الحافظ في التقريب ، وقال : ضعيف وأعرض عن أعدل ما وصف به خلافا لما وعده في ديباجته ، وأحسن شيء ما قاله الذهبي في الميزان : صدوق في حفظه شيء ، انتهى .

                                                                                                          قلت : لو سلم أن أحسن شيء هو ما قاله الذهبي فلا شك أن العمري في حفظه شيء ، وحديثه هذا مخالف لأحاديث الصحيحين التي تدل على شهود أبي هريرة قصة ذي اليدين ، فهو منكر غير مقبول .

                                                                                                          وليعلم أن النيموي جعل ابن حبان هاهنا من المتشددين فإنه ضعف العمري ، وجعله في بحث القراءة خلف الإمام من المتساهلين ، فإنه وثق نافع بن محمود أحد رواة حديث القراءة خلف الإمام حيث قال : وأما ابن حبان فهو من المتساهلين ، انتهى .

                                                                                                          [ ص: 356 ] ، ثم ليعلم أن من عادة النيموي أنه إذا اختلف أقوال أئمة الحديث في راو ويكون القول الذي ذكره الحافظ في التقريب مفيدا له يذكره ، ثم يقول هذا أعدل الأقوال فيه لما وعد الحافظ في ديباجة التقريب من أنه يحكم على كل راو بأعدل ما وصف به ، وأما إذا لا يكون قوله مفيدا له فيذكره ، ثم يقول أعرض الحافظ عن أعدل ما وصف به خلافا لما وعد في ديباجته فاعتبروا يا أولي الأبصار ، ثم ذكر النيموي الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة فقال : وثانيهما أن ذا اليدين هو ذو الشمالين ، واستدل على ذلك بوجوه منها ما رواه الزهري في حديث أبي هريرة ذا الشمالين مكان ذي اليدين أخرجه النسائي وغيره . ومنها ما رواه البزار والطبراني في الكبير عن ابن عباس قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا ، ثم سلم فقال له ذو الشمالين : أنقصت الصلاة يا رسول الله ؟ قال : كذلك يا ذا اليدين ؟ قال : نعم ، فركع ركعة وسجد سجدتين ، ثم ذكر النيموي أقوال بعض أهل العلم كابن سعد وغيره ، ثم قال : فثبت بهذه الأقوال أن ذا اليدين وذا الشمالين واحد ، وقد اتفق أهل الحديث والسير أن ذا الشمالين استشهد ببدر ، انتهى كلام النيموي .

                                                                                                          قلت : استشهاد ذي الشمالين ببدر مسلم ، وأما أن ذا اليدين هو ذو الشمالين الذي قتل ببدر فهو غير مسلم ، بل الحق والصواب أن ذا اليدين غير ذي الشمالين . قال الحافظ ابن حجر في الفتح : وقد اتفق معظم أهل الحديث من المصنفين وغيرهم على أن ذا الشمالين غير ذي اليدين ، ونص على ذلك الشافعي في اختلاف الحديث ، انتهى . وقال الحافظ بعد ورقة : وقد تقدم أن الصواب التفرقة بين ذي اليدين وذي الشمالين انتهى ، وأما رواية الزهري بلفظ ذي الشمالين مكان ذي اليدين وكذا بعض الروايات الأخرى التي وقع فيها لفظ ذي الشمالين مكان ذي اليدين فهي مخالفة لعامة الروايات الصحيحة فلا اعتداد بها .

                                                                                                          قال البيهقي في المعرفة : وهم الزهري في قوله ذو الشمالين وإنما هو ذو اليدين ، وذو الشمالين تقدم موته في من قتل ببدر ، وذو اليدين بقي بعد النبي صلى الله عليه وسلم فيما يقال ، انتهى . وقال في موضع آخر : وذو الشمالين استشهد يوم بدر هكذا ذكره عروة بن الزبير وسائر أهل العلم بالمغازي ، انتهى وقال : إن أبا هريرة شهد قصة ذي اليدين في الصلاة وحضرها كما ورد في الصحيحين عنه قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي لفظ : بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي . قال : وقد أجمعوا على أن إسلام أبي هريرة كان عام خيبر سنة سبع بعد بدر بخمس سنين ، انتهى . وقال السهيلي في الروض الأنف : روى الزهري حديث التسليم من الركعتين ، وقال فيه : فقام ذو الشمالين رجل من بني زهرة لم يروه أحد هكذا إلا الزهري وهو غلط عند أهل الحديث وإنما هو [ ص: 357 ] ذو اليدين السلمي واسمه خرباق ، وذو الشمالين قتل ببدر والحديث شهده أبو هريرة وكان إسلامه بعد بدر بسنين ومات ذو اليدين السلمي في خلافة معاوية ، انتهى ، كذا نقل الزيلعي ، وقول البيهقي والسهيلي في نصب الراية ، ونقل عن خلاصة النووي ما لفظه : وذو اليدين اسمه خرباق وكنيته أبو العريان ، عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما ذو الشمالين فهو عمير بن عمرو الخزاعي قتل يوم بدر شهيدا وهو غير المتكلم في حديث السهو ، هذا قول جميع الحفاظ إلا الزهري ، وقد اتفقوا على تغليط الزهري في ذلك ، انتهى . وقد بسطنا الكلام في هذا الباب في كتابنا أبكار المنن فعليك أن تطالعه .




                                                                                                          الخدمات العلمية