الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ذكر سبب مقتل قتيبة بن مسلم

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذلك أنه جمع الجند والجيوش ، وعزم على خلع سليمان وترك طاعته ، وذكر لهم همته وفتوحه وعدله فيهم ، ودفعه الأموال الجزيلة إليهم ، فلما فرغ من مقالته ، لم يجبه أحد منهم إلى مقالته ، فشرع في تأنيبهم وذمهم ، قبيلة قبيلة ، وطائفة طائفة ، فغضبوا عند ذلك ونفروا عنه وتفرقوا ، وعملوا على مخالفته وسعوا في قتله ، وكان القائم بأعباء ذلك رجل يقال له : وكيع بن أبي سود ، فجمع جموعا كثيرة ثم ناهضه فلم يزل به حتى قتله في ذي الحجة من هذه السنة ، وقتل معه أحد عشر رجلا من إخوته وأبناء إخوته ، ولم يبق منهم سوى ضرار بن مسلم وكانت أمه الغراء بنت ضرار بن القعقاع بن معبد بن سعد بن زرارة ، فحمته أخواله وعمرو بن مسلم ، وكان عامل الجوزجان . وقتل قتيبة وعبد الرحمن وعبد الله وعبيد الله وصالح وبشار ، وهؤلاء أبناء مسلم ، وأربعة من أبنائهم فقتلهم كلهم وكيع بن سود .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد كان قتيبة بن مسلم بن عمرو بن حصين بن ربيعة أبو حفص الباهلي ، من سادات الأمراء وخيارهم ، وكان من القادة النجباء الكبراء ، والشجعان وذوي [ ص: 616 ] الحروب والفتوحات السعيدة ، والآراء الحميدة ، وقد هدى الله على يديه خلقا لا يحصيهم إلا الله ، فأسلموا ودانوا لله عز وجل ، وفتح من البلاد والأقاليم الكبار والمدن العظام شيئا كثيرا ، كما تقدم ذلك مفصلا مبينا ، والله سبحانه لا يضيع سعيه ، ولا يخيب تعبه وجهاده .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولكن زل زلة كان فيها حتفه ، وفعل فعلة رغم فيها أنفه ، وخلع الطاعة فبادرت إليه المنية ، وفارق الجماعة ، فمات ميتة جاهلية ، لكن سبق له من الأعمال الصالحة ما قد يكفر الله بها عنه من سيئاته ، ويمحو بها عنه من خطياته ، والله يسامحه ويعفو عنه ، ويتقبل منه ما كان يكابده من مناجزة الأعداء .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكانت وفاته بفرغانة من أقصى بلاد خراسان في ذي الحجة من هذه السنة ، وله من العمر ثمان وأربعون سنة ، وكان أبوه أبو صالح ممن قتل مع مصعب بن الزبير ، وكانت ولايته على خراسان عشر سنين ، واستفاد وأفاد فيها خيرا كثيرا ، وقد رثاه عبد الرحمن بن جمانة الباهلي فقال :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كأن أبا حفص قتيبة لم يسر بجيش إلى جيش ولم يعل منبرا     ولم تخفق الرايات والقوم حوله
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقوف ولم يشهد له الناس عسكرا     دعته المنايا فاستجاب لربه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وراح إلى الجنات عفا مطهرا     فما رزئ الإسلام بعد محمد
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      بمثل أبي حفص فبكيه عبهرا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 617 ] ولقد بالغ هذا الشاعر في بيته الأخير ، وعبهر أم ولد له . وقال الطرماح في هذه الوقعة التي قتل فيها قتيبة على يد وكيع بن أبي سود :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لولا فوارس مذحج ابنة مذحج     والأزد زعزع واستبيح العسكر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وتقطعت بهم البلاد ولم يؤب     منهم إلى أهل العراق مخبر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      واستضلعت عقد الجماعة وازدرى     أمر الخليفة واستحل المنكر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قوم همو قتلوا قتيبة عنوة     والخيل جانحة عليها العثير
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      بالمرج مرج الصين حيث تبينت     مضر العراق من الأعز الأكبر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذ حالفت جزعا ربيعة كلها     وتفرقت مضر ومن يتمضر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وتقدمت أزد العراق ومذحج     للموت يجمعها أبوها الأكبر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قحطان تضرب رأس كل مدجج     تحمي بصائرهن إذ لا تبصر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      والأزد تعلم أن تحت لوائها     ملكا قراسية وموت أحمر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فبعزنا نصر النبي محمد     وبنا تثبت في دمشق المنبر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد بسط ابن جرير هذه القصة بسطا كثيرا وذكر أشعارا كثيرة جدا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 618 ] وقال القاضي ابن خلكان : وقال جرير في قتيبة بن مسلم رحمه الله وسامحه :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ندمتم على قتل الأغر ابن مسلم     وأنتم إذا لاقيتم الله أندم
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لقد كنتم من غزوه في غنيمة     وأنتم لمن لاقيتم اليوم مغنم
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      على أنه أفضى إلى حور جنة     وتطبق بالبلوى عليكم جهنم

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : وقد ولي من أولاده وذريته جماعة الإمرة في البلدان ، فمنهم عمرو بن سعيد بن سلم بن قتيبة بن مسلم ، وكان جوادا ممدحا ، رثاه حين مات أبو عمرو أشجع بن عمرو السلمي الرقي نزيل البصرة بقوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      مضى ابن سعيد حين لم يبق مشرق     ولا مغرب إلا له فيه مادح
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وما كنت أدري ما فواضل كفه     على الناس حتى غيبته الصفائح
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأصبح في لحد من الأرض ضيق     وكانت به حيا تضيق الصحاصح
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض     فحسبك مني ما تجن الجوانح

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 619 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فما أنا من رزء وإن جل جازع     ولا بسرور بعد موتك فارح
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كأن لم يمت حي سواك ولم تقم     على أحد إلا عليك النوائح
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لئن حسنت فيك المراثي وذكرها     لقد حسنت من قبل فيك المدائح

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن خلكان وهي من أحسن المراثي ، وهي في الحماسة . ثم تكلم على باهلة ، وأنها قبيلة مرذولة عند العرب ، قال : وقد رأيت في بعض المجاميع أن الأشعث بن قيس قال : يا رسول الله ، أتتكافأ دماؤنا؟ قال : نعم ، ولو قتلت رجلا من باهلة لقتلتك به وقيل لبعض العرب : أيسرك أن تدخل الجنة وأنت باهلي؟ قال : بشرط أن لا يعلم أهل الجنة بذلك . وسأل بعض الأعراب رجلا : ممن أنت؟ فقال : من باهلة . فجعل يرثي له . فقال : وأزيدك أني لست من الصميم وإنما أنا من مواليهم . فجعل يقبل يديه ورجليه ، فقال : ولم تفعل هذا؟ فقال : لأن الله تعالى ما ابتلاك بهذه الرزية في الدنيا إلا ليعوضك الجنة في الآخرة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال ابن جرير وفي هذه السنة توفي قرة بن شريك القيسي أمير مصر من جهة الوليد . وفيها حج بالناس أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، وكان هو الأمير على المدينة وعلى مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد [ ص: 620 ] بن أسيد ، وعلى حرب العراق وصلاتها يزيد بن المهلب ، وعلى خراجها صالح بن عبد الرحمن ، وعلى نيابة البصرة ليزيد بن المهلب سفيان بن عبد الله الكندي ، وعلى قضائها عبد الرحمن بن أذينة ، وعلى قضاء الكوفة أبو بكر بن أبي موسى ، وعلى حرب خراسان وكيع بن أبي سود .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية