الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ذكر فتح عمورية على يد المعتصم

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لما تفرغ المعتصم من شأن بابك لعنه الله وقتله وأخذ بلاده ، استدعى بالجيوش إلى بين يديه ، وتجهز جهازا لم يتجهزه أحد كان قبله من الخلفاء ، وأخذ معه من آلات الحرب والأحمال والجمال والقرب والدواب والنفط والخيل والبغال شيئا لم يسمع بمثله ، وسار إليها ، في جحافل كالجبال ، وبعث الأفشين خيذر بن كاوس من ناحية سروج وعبأ الخليفة جيشه تعبئة لم يسمع بمثلها ، وقدم بين يديه الأمراء المعروفين بالحرب ، فانتهى في سيره إلى نهر اللمس وهو قريب من طرسوس وذلك في رجب من هذه السنة [ ص: 253 ] المباركة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد ركب ملك الروم في جيشه ، فقصد نحو المعتصم ، فتقاربا حتى كان بين الجيشين نحو من أربعة فراسخ ، ودخل الأفشين بلاد الروم من ناحية أخرى ، فجاء من وراء ملك الروم ، فحار في أمره وضاق ذرعه بسبب ذلك ؛ إن هو ناجز الخليفة جاءه الأفشين من خلفه ، فالتقيا عليه فيهلك ، وإن سار إلى أحدهما ، وترك الآخر أخذه من ورائه ، ثم اقترب منه الأفشين فسار إليه ملك الروم في شرذمة من الجيش ، واستخلف على بقيته قريبا له ، فالتقى هو والأفشين في يوم الخميس لخمس بقين من شعبان من هذه السنة ، فثبت الأفشين في ثاني الحال ، وقتل من الروم خلقا ، وجرح آخرين ، وتفلت فئة ملك الروم ، وبلغه أن بقية الجيش قد شردوا عن قرابته وذهبوا عنه وتفرقوا عليه ، فأسرع الأوبة ، فإذا نظام الجيش قد انحل ، فغضب على قرابته وضرب عنقه ، وجاءت الأخبار بذلك كله إلى المعتصم ، فسره ذلك جدا ، فركب من [ ص: 254 ] فوره وجاء إلى أنقرة ووافاه الأفشين بمن معه إلى هنالك ، فوجدوا أهلها قد هربوا منها وتفرقوا عنها فتقووا منها بطعام وعلوفة كثيرة ، ثم فرق المعتصم جيشه ثلاث فرق ؛ فالميمنة عليها الأفشين والميسرة عليها أشناس والمعتصم في القلب ، وبين كل عسكرين فرسخان ، وأمر كل أمير من الأفشين وأشناس أن يجعل لجيشه ميمنة وميسرة وقلبا ومقدمة وساقة ، وأنهم مهما مروا عليه من القرى حرقوا ، وخربوا ، وأسروا ، وغنموا ، وسار بهم كذلك قاصدا إلى عمورية وكان بينها وبين أنقرة سبع مراحل ، فأول من وصل إليها من الجيوش أشناس أمير الميسرة ضحوة يوم الخميس لخمس خلون من رمضان من هذه السنة ، فدار حولها دورة ، ثم نزل على ميلين منها ، ثم قدم المعتصم صبيحة يوم الجمعة بعده ، فدار حولها دورة ، ثم نزل قريبا منها ، ثم قدم الأفشين يوم السبت فدار حولها دورة ثم نزل قريبا منها وقد تحصن أهلها ، وملئوا أبراجها بالرجال والسلاح ، وهي مدينة عظيمة كبيرة جدا ذات سور منيع ، وأبراج عالية كبيرة ، وقسم المعتصم الأبراج على الأمراء ، فنزل كل أمير تجاه الموضع الذي أقطعه ، وعينه له ، ونزل المعتصم قباله بمكان هناك قد أرشده إليه بعض من كان فيها من المسلمين الأسراء ، وكان قد تنصر عندهم ، وتزوج منهم ، فلما رأى أمير المؤمنين [ ص: 255 ] والمسلمين معه رجع إلى الإسلام ، وخرج إلى الخليفة ، فأسلم وأعلمه بمكان في السور كان قد هدمه السيل وبني بناء فاسدا بلا أساس ، فنصب المعتصم المجانيق حول عمورية فكان أول موضع انهدم ذلك الموضع الذي نصح فيه ذلك الأسير ، فبادر أهل البلد ، فسدوه بالخشب الكبار المتلاصقة ، فألح عليها المنجنيق فكسرها فجعلوا فوقها البرادع ؛ ليردوا حدة الحجر ، فلما ألح عليها المنجنيق لم تغن شيئا ، وانهدم السور من ذلك الجانب ، وتفسخ ، فكتب نائب البلد إلى ملك الروم يعلمه بذلك ، وبعث ذلك مع غلامين من قومهم ، فلما اجتازوا بالجيش في طريقهم أنكروا أمرهما ، فسألوهما ممن أنتما ؟ فقالا : من أصحاب فلان ، لرجل من المسلمين فحملا إلى المعتصم فقررهما ، فإذا معهما كتاب ياطس نائب عمورية إلى ملك الروم يعلمه بما حصل لهم من الحصار ، وأنه عازم على الخروج من أبواب البلد بمن معه بغتة فيناجز المسلمين كائنا في ذلك ما [ ص: 256 ] كان . فلما وقف المعتصم على ذلك أمر بالغلامين ، فخلع عليهما ، وأن يعطى كل واحد منهما بدرة ، فأسلما من فورهما ، فأمر الخليفة أن يطاف بهما حول البلد ، وعليهما الخلع ، وأن يوقفا تحت الحصن الذي فيه ياطس ، فينثر عليهما الدراهم والخلع ، ومعهما الكتاب الذي كتب به ياطس معهما إلى ملك الروم ، فجعلت الروم تلعنهما وتسبهما . ثم أمر المعتصم عند ذلك بتجديد الحرس والاحتفاظ فيه من خروج الروم بغتة ، فضاقت الروم ذرعا بذلك ، وألح عليهم المسلمون في الحصار ، وقد أعد المعتصم عليها المجانيق الكثيرة والدبابات وغير ذلك من آلات الحرب . ولما رأى المعتصم عمق خندقها ، وارتفاع سورها عمل المجانيق في مقاومة سورها ، وكان قد غنم في الطريق غنما كثيرا جدا ففرقها في الناس ، وقال : ليأكل الرجل الرأس ، وليجىء بملء جلده ترابا فيطرحه في الخندق . ففعل الناس ذلك ، فتساوى الخندق بوجه الأرض من كثرة ما طرح فيه من الأغنام ، ثم أمر بالتراب ، فوضع فوق ذلك حتى صار طريقا ممهدا ، وأمر بالدبابات أن توضع فوقه ، فلم يحوج الله إلى ذلك ، وبينما الناس في الحرس إذ هدم المنجنيق ذلك [ ص: 257 ] الموضع المعيب من السور ، فلما سقط ما بين البرجين سمع الناس هدة عظيمة ، فظنها من لم يرها أن الروم قد خرجوا على الناس بغتة ، فبعث المعتصم من ينادي في الناس : إنما ذلك سقوط السور ، ففرح المسلمون بذلك فرحا شديدا لكن لم يكن يتسع أن يدخل منه الجيش لضيقه عنهم ، فأمر المعتصم بالمجانيق المتفرقة فجمعت هنالك ونصبت حول ذلك الموضع الذي سقط ، ليضرب بها ما حوله ليتسع لدخول الخيل والرجال . وقوي الحصار هنالك جدا ، وقد وكلت الروم لكل برج من أبراج السور أميرا يحفظه ، واتفق أن ذلك الأمير الذي انهدم ما عنده من السور ضعف عن مقاومة ما يلقاه من المسلمين ، فذهب إلى ياطس ، فسأله النجدة ، فامتنع أحد من الروم أن ينجده ، وقالوا : لا نترك ما نحن بصدده من حفظ أماكننا التي عينت لنا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلما يئس منهم خرج إلى المعتصم ليجتمع به ، فلما وصل إليه أمر المعتصم المسلمين أن يدخلوا البلد من تلك الثغرة التي قد انهدمت وخلت من [ ص: 258 ] المقاتلة ، فركب المسلمون نحوها ، فجعلت الروم يشيرون إليهم لا تحيوا ، ولا يقدرون على دفاعهم ، فلم يلتفت إليهم المسلمون ، ثم تكاثروا عليهم ودخلوا البلد قهرا وتتابع المسلمون إليها يكبرون ، وتفرقت الروم عن أماكنها ، فجعلوا يقتلونهم في كل مكان حيث وجدوهم وأين ثقفوهم ، وقد حصروهم في كنيسة لهم هائلة ، ففتحوها قسرا وقتلوا من فيها قهرا ، وأحرقوا عليهم باب الكنيسة فأحرقوا عن آخرهم ، ولم يبق فيها موضع محصن سوى المكان الذي فيه النائب وهو ياطس ، في حصن منيع ، فركب المعتصم فرسه وجاء حتى وقف بحذاء الحصن الذي فيه ياطس ، فناداه المنادي : ويحك يا ياطس ، هذا أمير المؤمنين واقف تجاهك . فقال : ليس ياطس هاهنا . مرتين . فغضب المعتصم من ذلك وولى ، فنادى ياطس : هذا ياطس ، هذا ياطس . فرجع الخليفة ونصب السلالم على الحصن ، وطلعت الرسل إليه ، فقالوا له : ويحك ، انزل على حكم أمير المؤمنين . فتمنع ، ثم نزل متقلدا سيفا ، فوضع السيف من [ ص: 259 ] عنقه ، ثم جيء به حتى أوقف بين يدي المعتصم ، فضربه بالسوط على رأسه ، ثم أمر به أن يمشي إلى مضرب الخليفة ، فمشى مهانا إلى الوطاق الذي فيه الخليفة نازل ، فأوثق هناك ، وأخذ المسلمون من عمورية أموالا عظيمة وغنائم لا تحد ولا توصف ، فحملوا ما أمكن حمله ، وأمر المعتصم بإحراق ما بقي من ذلك ، وبإحراق ما هنالك من المجانيق والدبابات وآلات الحرب ؛ لئلا يتقوى بها الروم على شيء من حرب المسلمين ، وانصرف راجعا عنها إلى ناحية طرسوس في أواخر شوال من هذه السنة ، وكانت إقامته على عمورية خمسة وخمسين يوما .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية