الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      خلافة المقتدي بأمر الله

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وهو أبو القاسم عدة الدين عبد الله بن الأمير ذخيرة الدين محمد بن الخليفة القائم بأمر الله بن القادر العباسي ، وأمه أرمنية تسمى أرجوان وتدعى قرة العين ، وأدركت خلافته وخلافة ولديه المستظهر والمسترشد . وقد كان أبوه توفي وهو حمل ، فحين ولد ذكرا فرح به جده والمسلمون فرحا شديدا ، إذ حفظ الله على المسلمين بقاء الخلافة في البيت القادري ; لأن من عداهم يبتذلون في الأسواق مع العوام وكانت القلوب تنفر من تولية مثل أولئك الخلافة على الناس ، ونشأ هذا في حجر جده القائم بأمر الله يربيه بما يليق بأمثاله ، ويدربه على أحسن السجايا ولله الحمد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان عمر المقتدي حين ولي الخلافة عشرين سنة ، وهو في غاية الجمال خلقا ، وخلقا وكانت بيعته يوم الجمعة الثالث عشر من شعبان من هذه السنة ، وجلس في دار الشجرة بقميص أبيض وعمامة بيضاء لطيفة وطرحة قصب درية ، وجاء الوزراء والأمراء والأشراف ووجوه الناس فبايعوه ، فكان أول من بايعه الشريف أبو جعفر بن أبي موسى الحنبلي [ ص: 50 ] وأنشده قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا سيد منا مضى قام سيد



                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم أرتج عليه فلم يدر ما بعده فقال الخليفة :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قئول لما قال الكرام فعول



                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وبايعه من شيوخ العلم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي ، والشيخ أبو نصر بن الصباغ الشافعيان ، والشيخ أبو محمد التميمي الحنبلي ، وبرز فصلى بالناس العصر ثم بعد ساعة أخرج تابوت جده بسكون ووقار من غير صراخ ولا نوح ، فصلى عليه وحمل إلى المقبرة ، رحمه الله ، وقد كان المقتدي بالله شهما شجاعا ، أيامه كلها مباركة والرزق دار ، والخلافة معظمة جدا ، وتصاغرت الملوك له وتضاءلوا بين يديه ، وخطب له بالحرمين وبيت المقدس والشامات كلها ، واسترجع المسلمون الرها وأنطاكية من أيدي العدو ، وعمرت بغداد وغيرها من البلاد واستوزر ابن جهير ثم أبا شجاع ثم أعاد ابن جهير وقاضيه الدامغاني ثم أبو بكر الشامي وهؤلاء من خيار القضاة والوزراء ولله الحمد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي شعبان أخرج المفسدات من الخواطئ من بغداد على حمرات ينادين على أنفسهن بالعار والفضيحة ، وخرب دورهن وأسكنهن الجانب الغربي ، وخرب أبرجة الحمام ومنع من اللعب بها ، وألزم الناس بالمآزر في الحمامات ، [ ص: 51 ] ومنع أصحاب الحمامات أن يصرفوا فضلاتها إلى دجلة ، وألزمهم بحفر آبار لتلك المياه القذرة صيانة لماء الشرب .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي شوال وقعت نار في أماكن متعددة في بغداد ، حتى في دار الخلافة فأحرقت شيئا كثيرا من الدور والدكاكين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ووقع بواسط حريق في تسعة أماكن ، واحترق فيها أربعة وثمانون دارا وستة خانات ، وأشياء كثيرة غير ذلك فإنا لله وإنا إليه راجعون .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها عمل الرصد للسلطان ملكشاه اجتمع عليه جماعة من أعيان المنجمين وأنفق عليه أموالا كثيرة وبقي الرصد دائرا حتى مات السلطان فبطل .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي ذي الحجة أعيدت الخطبة بمكة للمصريين وقطعت خطبة العباسيين ، وذلك لما قوي أمر صاحب مصر بعدما كان ضعيفا بسبب غلاء بلده ، فلما أرخصت تراجع الناس إليها وطاب العيش بها ، وقد كانت الخطبة العباسية بمكة أربع سنين وخمسة أشهر ، وستعود كما كانت على ما سيأتي بيانه في موضعه

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذا الشهر انجفل أهل السواد من شدة الوباء وقلة ماء دجلة ونقصها . وحج بالناس الشريف أبو طالب الحسيني بن محمد الزينبي وأخذ البيعة للخليفة المقتدي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية