الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وممن توفي فيها من الأعيان :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قاضي القضاة صدر الدين بن سني الدولة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أحمد بن يحيى بن هبة الله بن الحسن بن يحيى بن محمد بن علي بن يحيى بن صدقة بن الخياط ، قاضي القضاة صدر الدين أبو العباس ابن سني الدولة التغلبي الدمشقي الشافعي ، وسني الدولة هو الحسن بن يحيى المذكور كان كاتبا لبعض ملوك دمشق في حدود الخمسمائة ، وله أوقاف على ذريته . وابن الخياط الشاعر صاحب الديوان ، هو أبو عبد الله أحمد بن محمد بن علي بن يحيى بن صدقة التغلبي ، عم سني الدولة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولد القاضي صدر الدين سنة تسع وخمسين وخمسمائة ، وسمع الخشوعي وابن طبرزد والكندي وغيرهم ، وحدث ودرس في عدة مدارس وأفتى ، وكان [ ص: 409 ] فاضلا عارفا بالمذهب ، مشكور السيرة ، ولكن الشيخ شهاب الدين أبو شامة ينال منه . فالله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد ولي الحكم بدمشق استقلالا سنة ثلاث وأربعين ، واستمر إلى هذه السنة ، فسار حين عزل بالكمال التفليسي هو والقاضي محيي الدين بن الزكي إلى هولاكو ، ثم عاد من عنده وقد تولى ابن الزكي القضاء ، فاجتاز ابن سني الدولة ببعلبك وهو متمرض ، فمات بها ودفن عند الشيخ عبد الله اليونيني رحمه الله تعالى ، وقد كان الملك الناصر يثني عليه كما كان الملك الأشرف يثني على والده قاضي القضاة شمس الدين بن سني الدولة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما استقر أمر السلطان الملك الظاهر بيبرس ولى ولده القاضي نجم الدين أبا بكر بن قاضي القضاة صدر الدين القضاء بدمشق ، وعزل ابن الزكي ، ثم عزله بعد سنة ، وثنى بابن خلكان على ما سيأتي بيانه ، وبالله المستعان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      والقاضي صدر الدين بن سني الدولة هذا هو الذي أحدث في زمن المشمش بطالة الدروس; لأنه كان له بستان بأرض السهم ، فكان يشق عليه النزول في ذلك الوقت إلى الدرس ، فبطل للناس هذه الأيام ، فاتبعوه في ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها توفي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صاحب ماردين الملك السعيد

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      نجم الدين بن إيل غازي بن [ ص: 410 ] المنصور أرتق أرسلان
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      بن إيل غازي بن ألبي بن تمرتاش بن إيل غازي بن أرتق ،
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان شجاعا معظما ، ملك يوما في قلعته .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      توران شاه بن الملك صلاح الدين يوسف بن أيوب ، كان نائبا للملك الناصر بن العزيز بن الظاهر بن الناصر على حلب حتى تملك دمشق ، وقد حصن حلب من أيدي المغول مدة شهر ، ثم سلمها بعد محاصرة شديدة صلحا . ثم كانت وفاته في هذه السنة ودفن بدهليز داره .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها قتل :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الملك السعيد حسن بن العزيز

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      عثمان بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كان صاحب الصبيبة وبانياس بعد أبيه ، ثم أخذتا منه ، وحبس بقلعة البيرة ، فلما جاءت التتار كان معهم ، وردوا عليه بلاده ، فلما كانت وقعة عين جالوت أتي به أسيرا إلى بين يدي الملك المظفر قطز فضرب عنقه; لأنه كان قد لبس سراقوج التتار ، وناصحهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      عبد الرحمن بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الحسن بن [ ص: 411 ] عبد الرحمن بن طاهر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      بن محمد بن الحسين بن علي ، أبو طالب شرف الدين بن العجمي الحلبي
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الشافعي ، من بيت العلم والرئاسة بحلب ، درس بالظاهرية ، ووقف مدرسة بها ، ودفن بها ، وكانت وفاته حين دخلت التتار حلب في صفر ، فعذبوه بأن صبوا عليه ماء باردا في الشتاء ، فتشنج حتى مات ، رحمه الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الملك المظفر قطز بن عبد الله

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      سيف الدين التركي ،
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أخص مماليك الملك المعز التركماني ، أحد مماليك الصالح أيوب ، ثم إنه لما قتل أستاذه المعز قام في تولية ابن أستاذه المنصور نور الدين علي ، فلما سمع بأمر التتار خاف أن تختلف الكلمة بسبب صغر ابن أستاذه ، فعزله ودعا إلى نفسه ، فبويع في ذي القعدة سنة سبع وخمسين وستمائة كما تقدم ، ثم سار إلى التتار كما تقدم ، فجعل الله على يديه نصرة الإسلام كما ذكرنا بعين جالوت ، وقد كان شجاعا بطلا ، كثير الخير ، ممالئا للإسلام وأهله ، وهم يحبونه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ذكر عنه أنه لما كان بالمعركة يوم عين جالوت قتل جواده ، ولم يجد أحدا في الساعة الراهنة من الوشاقية الذين معهم الجنائب ، فترجل وبقي واقفا كذلك على الأرض ثابتا في محل المعركة وموضع السلطنة من القلب ، فلما رآه بعض الأمراء ترجل عن فرسه ، وحلف على السلطان ليركب ، فامتنع السلطان وقال : ما كنت لأحرم المسلمين نفعك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولم يزل كذلك حتى جاءت الوشاقية فركب ، [ ص: 412 ] فلامه بعض الأمراء وقال : يا خوند ، لم لا ركبت فرس فلان؟ فلو كان رآك بعض الأعداء لقتلك وهلك الإسلام بسببك . فقال : أما أنا فكنت أروح إلى الجنة ، وأما الإسلام فله رب لا يضيعه ، قد قتل فلان وفلان وفلان - وعدد خلقا من الملوك - فلم يضيع الله الإسلام .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان حين ساق من الديار المصرية في خدمته خلق من كبار الأمراء البحرية وغيرهم ، ومعه المنصور صاحب حماة وجماعة من أبناء الملوك ، فأرسل إلى صاحب حماة يقول له : لا تتعن بمد سماط في هذه الأيام ، وليكن مع الجندي لحمة في سولقه يأكلها ، والعجل العجل .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان اجتماعه مع عدوه كما ذكرنا في العشر الأخير من رمضان يوم الجمعة في شهر رمضان ، وهذه بشارة عظيمة ، فإن وقعة بدر كانت يوم الجمعة في رمضان ، ولهذا نصر الإسلام نصرا عزيزا ، ولما قدم دمشق في شوال أقام بها العدل ، ورتب الأمور كما ذكرنا ، وأرسل الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري خلف التتار ليخرجهم ويطردهم عن حلب ووعده بنيابتها ، فلم يف له ، فوقعت الوحشة بينهما بسبب ذلك ، فلما عاد المظفر قطز إلى مصر تمالأ عليه البندقداري وغيره من الأمراء فقتلوه بين الغرابي والصالحية ، ودفن بالقصر ، وكان قبره يزار ، فلما تمكن الظاهر من الملك بعث إلى قبره فغيبه عن الناس ، فكان لا يعرف بعد ذلك ، وكان مقتله يوم السبت [ ص: 413 ] سادس عشر من ذي القعدة ، رحمه الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحكى الشيخ قطب الدين اليونيني في " الذيل على المرآة " عن الشيخ علاء الدين بن غانم ، عن المولى تاج الدين أحمد بن الأثير كاتب السر في أيام الناصر صاحب دمشق ، قال : لما كنا مع السلطان الناصر بوطأة برزة جاءت البريدية يخبرون بأن المظفر قطز قد تولى السلطنة بالديار المصرية ، فقرأت ذلك على السلطان ، فقال : اذهب إلى فلان وفلان فأخبرهم بهذا . قال : فلما خرجت من عنده لقيني بعض الأجناد فقال لي : جاءكم الخبر من الديار المصرية بأن قطز قد تملك؟ فقلت : ما عندي من هذا علم ، وما يدريك أنت بهذا؟ فقال : بلى والله إنه سيلي المملكة ، ويكسر التتار . فقلت : من أين تعلم هذا؟ فقال : كنت أخدمه وهو صغير ، وكان عليه قمل كثير ، فكنت أفليه وأهينه ، فقال لي يوما : ويلك ، أيش تريد أن أعطيك إذا ملكت الديار المصرية؟ فقلت له : أنت مجنون؟! فقال : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ، وقال لي : أنت تملك الديار المصرية ، وتكسر التتار . وقول رسول الله حق لا شك فيه . فقلت له حينئذ - وكان صادقا - : أريد منك إمرة خمسين فارسا . فقال : نعم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن الأثير : فلما قال لي هذا قلت : هذه كتب المصريين بأنه قد تولى السلطنة . فقال : والله ليكسرن التتار . فكان كذلك كما قال .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما رجع الناصر إلى ناحية الديار المصرية ، وأراد دخولها ، ورجع عنها ودخلها أكثر الجيوش الشامية كان هذا الأمير الحاكي في جملة من دخلها ، فأعطاه المظفر إمرة خمسين فارسا ووفى له بالوعد ، وهو الأمير حسام الدين البركة خاني . قال ابن [ ص: 414 ] الأثير : فلقيني بالديار المصرية بعد أن تأمر ، فذكرني بما كان أخبرني عن المظفر فذكرته ، ثم كانت وقعة التتار على إثر ذلك ، ولله الحمد والمنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها هلك كتبغا نوين نائب هولاكو على بلاد الشام ، لعنهما الله ، ومعنى نوين يعني أمير عشرة آلاف ، وكان هذا الخبيث قد فتح لأستاذه هولاوو من أقصى بلاد العجم إلى الشام ، وقد أدرك جنكزخان جد هولاوو ، وقد كان كتبغا هذا يعتمد في حروبه للمسلمين ببلاد خراسان والعراق أشياء لم يسبقه إليها أحد ، كان إذا فتح بلدا ساق المقاتلة منه إلى البلد الذي يليه ، ويطلب من أهل البلد أن يئووا هؤلاء إليهم ، فإن فعلوا حصل مقصوده في تضييق الأطعمة والأشربة عليهم ، فتقصر مدة الحصار عليه ، وإن امتنعوا من إيوائهم عندهم قاتلهم بهؤلاء حتى يفنى هؤلاء ، فإذا حصل الفتح وإلا كان قد أضعف أولئك بهؤلاء ثم استأنف قتالهم بمن عنده حتى يفتحه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان يبعث إلى الحصن يقول لهم : إن ماءكم قد قل ، فافتحوا صلحا قبل أن نأخذكم قسرا . فيقولون : إن الماء عندنا كثير فلا نحتاج إلى ماء . فيقول : لا أصدق حتى أبعث من عندي من يشرف عليه ، فإن كان كثيرا انصرفت عنكم . فيقولون ابعث من يشرف [ ص: 415 ] على ذلك . فيرسل رجالا من جيشه ، معهم رماح مجوفة محشوة سما ، فإذا دخلوا ساطوا ذلك الماء بتلك الرماح ، فينفتح ذلك السم ويستقر في الماء ، فيكون سبب هلاكهم وهم لا يشعرون ، لعنه الله لعنة تدخل معه في قبره . وكان شيخا كبيرا قد أسن ، وكان يميل إلى دين النصارى ، ولكن لا يمكنه الخروج عن حكم جنكزخان في الياساق .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ قطب الدين اليونيني : وقد رأيته ببعلبك حين حاصر قلعتها ، وكان شيخا حسنا ، له لحية طويلة مسترسلة رقيقة قد ضفرها مثل الدبوقة ، وتارة يعلقها في حلقة بأذنه ، وكان مهيبا شديد السطوة . قال : وقد دخل الجامع فصعد المنارة ليتأمل القلعة منها ، ثم خرج من الباب الغربي ، فدخل دكانا خرابا ، فقضى حاجته والناس ينظرون إليه ، وهو مكشوف العورة ، فلما فرغ مسحه بعض أصحابه بقطن ملبد مسحة واحدة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : ولما بلغه خروج المظفر إليه بالعساكر المصرية تلوم في أمره ، ثم حملته نفسه الأبية على لقائهم ، وظن أنه ينتصر كما كانت عادته ، فحمل يومئذ على الميسرة فكسرها ، ثم أيد الله المسلمين وثبتهم ، فحملوا حملة صادقة على التتار ، فهزموهم هزيمة لا تجبر أبدا . وقتل كتبغا نوين في المعركة ، وأسر ابنه ، وكان شابا حسنا ، فأحضر بين يدي المظفر قطز ، فقال له : أهرب أبوك؟ قال إنه لا يهرب ، فطلبوه فوجدوه بين القتلى ، فلما رآه ابنه صرخ وبكى ، فلما تحققه [ ص: 416 ] المظفر قال : نام طيبا ، كان هذا سعادة التتار وبقتله ذهب سعدهم . وهكذا كان كما قال ، ولم يفلحوا بعده أبدا ، وكان قتله يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان ، لعنه الله تعالى ، وكان الذي قتل كتبغا نوين الأمير جمال الدين آقوش الشمسي ، رحمه الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الشيخ محمد الفقيه اليونيني

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الحنبلي البعلبكي الحافظ ، هو محمد بن أحمد بن عبد الله بن عيسى بن أبي الرجال أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسين بن إسحاق بن جعفر الصادق - كذا نقل هذا الانتساب الشيخ قطب الدين اليونيني من خط أخيه الأكبر أبي الحسين علي ، وأخبره أن والده قال له : نحن من سلالة جعفر الصادق . قال : وإنما ذكر له هذا عند الموت ليتحرج من قبول الصدقة - أبو عبد الله بن أبي الحسين اليونيني الحنبلي تقي الدين الفقيه الحنبلي الحافظ المفيد البارع العابد الناسك ، ولد سنة ثنتين وسبعين وخمسمائة ، وسمع الخشوعي وحنبلا والكندي والحافظ عبد الغني المقدسي ، وكان يثني عليه ، وتفقه على الشيخ الموفق ، ولزم صحبة الشيخ عبد الله اليونيني ، وانتفع به ، وكان الشيخ عبد الله يثني عليه ، ويقدمه ويقتدي به في الفتاوى الشرعية ، وقد لبس الخرقة من الشيخ عبد الله البطائحي ، وبرع في علم [ ص: 417 ] الحديث وحفظ " الجمع بين الصحيحين " بالفاء والواو ، وحفظ قطعة صالحة من " مسند الإمام أحمد " وكان يعرف العربية ، أخذ ذلك عن التاج الكندي ، وكتب مليحا حسنا ، وكان الناس ينتفعون بفنونه الكثيرة ، ويأخذون عنه الطريقة الحسنة ، وحصلت له وجاهة عظيمة عند الملوك وغيرهم ، توضأ مرة عند الملك الأشرف وهو عنده بالقلعة حال سماع " البخاري " على الزبيدي ، فلما فرغ من الوضوء نقض السلطان تخفيفة ، وبسطها على الأرض ليطأ عليها ، وحلف السلطان له أنها طاهرة ولابد أن يطأها برجله ، ففعل ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما قدم الكامل على أخيه الأشرف دمشق ، أنزله القلعة وتحول الأشرف لدار السعادة ، وجعل يذكر للكامل محاسن الشيخ الفقيه ، فقال : أشتهي أن أراه . فأرسل إليه إلى بعلبك بطاقة ، فاستحضره فوصل إلى دار السعادة ، فنزل الكامل إليه وتحادثا وتذاكرا شيئا من العلم ، فذكرت مسألة القتل بالمثقل ، وجرى ذكر حديث الجارية التي قتلها اليهودي ، فرض رأسها بين حجرين ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله ، فقال الكامل : إنه لم يعترف . فقال الشيخ الفقيه : في " صحيح مسلم " : فاعترف . فقال الكامل : أنا اختصرت " صحيح مسلم " ولم أجد هذا فيه . فقال الكامل : بلى . فأرسل الكامل ، فأحضر خمس مجلدات اختصاره " لمسلم " ، فأخذ الكامل مجلدا ، والأشرف مجلدا ، وعماد الدين بن موسك آخر ، والملك الصالح مجلدا ، وأخذ الشيخ الفقيه مجلدا ، فأول ما فتحه وجد الحديث كما قال الشيخ الفقيه ، فتعجب الكامل من استحضاره وسرعة كشفه ، [ ص: 418 ] وأراد أن يأخذه معه إلى الديار المصرية ، فأرسله الأشرف سريعا إلى بعلبك ، وقال للكامل : إنه لا يؤثر ببعلبك شيئا . فأرسل له الكامل ذهبا كثيرا . قال ولده قطب الدين : كان والدي يقبل بر الملوك ، ويقول : أنا لي في بيت المال أكثر من هذا . ولا يقبل من الأمراء ولا من الوزراء شيئا إلا أن يكون هدية مأكول ونحوه ، ويرسل إليهم من ذلك ، فيقبلونه على سبيل التبرك والاستشفاء .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكر أنه كثر ماله وأثرى ، وصار له سعة من المال كثيرة ، وذكر له أن الأشرف كتب له كتابا بقرية يونين ، وأعطاه لمحيي الدين بن الجوزي ليأخذ عليه خط الخليفة ، فلما شعر والدي بذلك أخذ الكتاب ومزقه ، وقال : أنا في غنية عن ذلك . قال : وكان والدي لا يقبل شيئا من الصدقة ، ويزعم أنه من ذرية جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه . قال : وقد كان قبل ذلك فقيرا لا شيء له . وكان للشيخ عبد الله زوجة ، ولها ابنة جميلة ، وكان الشيخ يقول لها : زوجيها من الشيخ محمد . فتقول : إنه فقير ، وأنا أحب أن تكون ابنتي سعيدة . فيقول لها : كأني أنظر إليهما إياه وإياها في دار فيها بركة ، وله رزق كثير ، والملوك يترددون إلى زيارته . فزوجتها منه ، فكان الأمر كذلك ، وكانت أولى زوجاته ، رحمه الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكانت الملوك كلها تجيء مدينته ، ويعظمونه جدا; بنو العادل وغيرهم ، وكذلك كان مشايخ الفقهاء كابن الصلاح وابن عبد السلام ، وابن الحاجب ، والحصيري ، وشمس الدين بن سني الدولة ، وابن الجوزي ، وغيرهم يعظمونه ويرجعون إلى قوله; لعلمه وعمله وديانته وأمانته .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 419 ] وقد ذكرت له أحوال ومكاشفات وكرامات كثيرة ، قدس الله روحه ، وزعم بعضهم أنه قطب منذ ثنتي عشرة سنة . فالله أعلم . وذكر الشيخ الفقيه قال : كنت عزمت مرة على الرحلة إلى حران ، وكان قد بلغني أن رجلا بها يعلم علم الفرائض جيدا ، فلما كانت الليلة التي أريد من صبيحتها أسافر جاءتني رسالة الشيخ عبد الله اليونيني يعزم علي إلى القدس الشريف ، وكأني كرهت ذلك ، وفتحت المصحف ، فطلع قوله : اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون [ يس : 21 ] فخرجت معه إلى القدس ، فوجدت ذلك الرجل الحراني بالقدس الشريف ، فأخذت عنه علم الفرائض حتى خيل لي أني قد صرت أبرع فيه منه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الشيخ أبو شامة : كان رجلا ضخما ، وحصل له قبول كثير من الأمراء وغيرهم ، وكان يلبس قبعا ، صوفه إلى خارج ، كما كان شيخه عبد الله اليونيني . قال : وقد صنف شيئا في المعراج ، فرددت عليه في كتاب سميته " الواضح الجلي في الرد على الحنبلي " . وذكر ولده قطب الدين أنه مات في التاسع عشر من رمضان من هذه السنة عن ثمان وثمانين سنة ، رحمه الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      محمد بن خليل بن عبد الوهاب بن بدر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أبو عبد الله البيطار الأكال ،
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أصله من جبل بني هلال ، وولد بقصر حجاج ، وكان مقيما بالشاغور ، وكان [ ص: 420 ] فيه صلاح ودين وإيثار للفقراء والمحاويج والمحابيس ، وكانت له حال غريبة; لا يأكل لأحد شيئا إلا بأجرة ، وكان أهل البلد يترامون عليه ليأكل لهم الأشياء المفتخرة الطيبة ، فيمتنع إلا بأجرة جيدة ، وكلما تمنع من ذلك حلا عند الناس ، وأحبوه ومالوا إليه ، فيأتونه بأشياء كثيرة من الحلاوات والشواء وغير ذلك ، وأجرة جيدة مع ذلك ، وهذا غريب جدا ، رحمه الله تعالى ، ورضي عنه بمنه وكرمه آمين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية