الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 177 ] فصل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد اختلفت الصحابة ، رضي الله عنهم ، يوم بدر في المغانم من المشركين يومئذ ، لمن تكون منهم ، وكانوا ثلاثة أصناف حين ولى المشركون ، ففرقة أحدقت برسول الله صلى الله عليه وسلم ، تحرسه خوفا من أن يرجع أحد من المشركين إليه ، وفرقة ساقت وراء المشركين يقتلون منهم ويأسرون ، وفرقة جمعت المغانم من متفرقات الأماكن ، فادعى كل فريق من هؤلاء أنه أحق بالمغنم من الآخرين ، لما صنع من الأمر المهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق : وحدثني عبد الرحمن بن الحارث وغيره ، عن سليمان بن موسى ، عن مكحول ، عن أبي أمامة الباهلي ، قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال ، فقال فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا ، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقسمه بين المسلمين عن بواء ، يقول : عن سواء . وهكذا رواه أحمد ، عن محمد بن سلمة ، عن محمد بن إسحاق به .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى قوله : على السواء . أي ساوى فيها بين الذين جمعوها ، وبين [ ص: 178 ] الذين اتبعوا العدو ، وبين الذين ثبتوا تحت الرايات ، لم يخصص بها فريقا منهم ممن ادعى التخصيص بها ، ولا ينفي هذا تخميسها وصرف الخمس في مواضعه ، كما قد يتوهمه بعض العلماء ، منهم أبو عبيد وغيره . والله أعلم . بل قد تنفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه ذا الفقار من مغانم بدر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن جرير : وكذا اصطفى جملا لأبي جهل ، كان في أنفه برة من فضة . وهذا قبل إخراج الخمس أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو ، ثنا أبو إسحاق ، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة ، عن سليمان بن موسى ، عن أبي سلام ، عن أبي أمامة ، عن عبادة بن الصامت قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدرا ، فالتقى الناس فهزم الله العدو ، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون ، وأكبت طائفة على العسكر يحوونه [ ص: 179 ] ويجمعونه ، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا يصيب العدو منه غرة ، حتى إذا كان الليل ، وفاء الناس بعضهم إلى بعض ، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها فليس لأحد فيها نصيب . وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحق بها منا ، نحن نفينا منها العدو وهزمناهم . وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم : خفنا أن يصيب العدو منه غرة ، فاشتغلنا به فنزلت : يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين [ الأنفال : 1 ] . فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على فواق بين المسلمين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أغار في أرض العدو نفل الربع ، فإذا أقبل راجعا نفل الثلث ، وكان يكره الأنفال .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد روى الترمذي وابن ماجه من حديث الثوري ، عن عبد الرحمن بن الحارث . . . . آخره . وقال الترمذي : هذا حديث حسن . ورواه ابن حبان في " صحيحه " ، والحاكم في " مستدركه " من حديث عبد الرحمن . وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه . [ ص: 180 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد روى أبو داود ، والنسائي ، وابن حبان ، والحاكم من طرق ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما كان يوم بدر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا . فتسارع في ذلك شبان الرجال ، وبقي الشيوخ تحت الرايات ، فلما كانت الغنائم جاءوا يطلبون الذي جعل لهم ، فقال الشيوخ : لا تستأثروا علينا ، فإنا كنا ردءا لكم ، ولو انكشفتم لفئتم إلينا ، فتنازعوا ، فأنزل الله تعالى : يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين وقد ذكرنا في سبب نزول هذه الآية آثارا أخر يطول بسطها هاهنا ، ومعنى الكلام أن الأنفال مرجعها إلى حكم الله ورسوله ، يحكمان فيها بما فيه المصلحة للعباد في المعاش والمعاد ، ولهذا قال تعالى : قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ثم ذكر ما وقع في قصة بدر ، وما كان من الأمر حتى انتهى إلى قوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل الآية [ الأنفال : 41 ] . فالظاهر أن هذه الآية مبينة لحكم الله في الأنفال ، الذي جعل مرده إليه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، فبينه تعالى ، وحكم فيها بما أراد تعالى ، وهو قول [ ص: 181 ] ابن زيد ، وقد زعم أبو عبيد القاسم بن سلام ، رحمه الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم غنائم بدر على السواء بين الناس ، ولم يخمسها ، ثم نزل بيان الخمس بعد ذلك ناسخا لما تقدم ، وهكذا روى الوالبي ، عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعكرمة والسدي ، وفي هذا نظر . والله أعلم ، فإن سياق الآيات قبل آية الخمس وبعدها ، كلها في غزوة بدر ، فيقتضي أن ذلك نزل جملة في وقت واحد غير متفاصل بتأخر يقتضي نسخ بعضه بعضا ، ثم في " الصحيحين " عن علي ، رضي الله عنه ، أنه قال في قصة شارفيه اللذين اجتب أسنمتهما حمزة : إن إحداهما كانت من الخمس يوم بدر . ما يرد صريحا على أبي عبيد ، أن غنائم بدر لم تخمس . والله أعلم . بل خمست كما هو قول البخاري وابن جرير ، وغيرهما ، وهو الصحيح الراجح . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية