الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 315 ] ذكر قدوم جعفر بن أبي طالب ومن كان بقي بالحبشة ممن هاجر إليها من المسلمين ، ومن انضم إليهم من أهل اليمن ، على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مخيم بخيبر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال البخاري : حدثنا محمد بن العلاء ، ثنا أبو أسامة ، ثنا بريد بن عبد الله بن أبي بردة ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى قال : بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن ، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي ، أنا أصغرهم ، أحدهما أبو بردة ، والآخر أبو رهم - إما قال : في بضع . وإما قال : في ثلاثة وخمسين ، أو اثنين وخمسين رجلا من قومي - فركبنا سفينة ، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة ، فوافقنا جعفر بن أبي طالب ، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا ، فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر ، فكان أناس من الناس يقولون لنا - يعني لأهل السفينة - : سبقناكم بالهجرة . ودخلت أسماء بنت عميس ، وهي ممن قدم معنا ، على حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زائرة ، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر ، فدخل عمر على حفصة ، وأسماء عندها ، فقال عمر حين رأى أسماء : من هذه ؟ قالت : أسماء بنت عميس قال عمر : [ ص: 316 ] الحبشية هذه ؟ البحرية هذه ؟ قالت أسماء : نعم . قال : سبقناكم بالهجرة ، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم . فغضبت وقالت : كلا والله ، كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم ، ويعظ جاهلكم ، وكنا في دار - أو في أرض - البعداء والبغضاء بالحبشة ، وذلك في الله وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وايم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأسأله ، ووالله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه . فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت : يا نبي الله ، إن عمر قال كذا وكذا ، قال : " فما قلت له ؟ " قالت : قلت كذا وكذا قال : " ليس بأحق بي منكم ، وله ولأصحابه هجرة واحدة ، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان " . قالت : فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتوني أرسالا يسألوني عن هذا الحديث ، ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم . قال أبو بردة : قالت أسماء : فلقد رأيت أبا موسى ، وإنه ليستعيد هذا الحديث مني .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو بردة ، عن أبي موسى ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن ، حين يدخلون بالليل ، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل ، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار ، ومنهم حكيم ، إذا لقي العدو - أو قال : الخيل - قال لهم : إن أصحابي يأمرونكم أن [ ص: 317 ] تنظروهم . وهكذا رواه مسلم عن أبي كريب وعبد الله بن براد ، عن أبي أسامة به .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال البخاري : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، ثنا حفص بن غياث ، ثنا بريد بن عبد الله بن أبي بردة ، عن أبي موسى ، قال : قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن افتتح خيبر ، فقسم لنا ولم يقسم لأحد لم يشهد الفتح غيرنا تفرد به البخاري دون مسلم ورواه أبو داود ، والترمذي وصححه من حديث بريد ، به .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكر محمد بن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ، يطلب منه من بقي من أصحابه بالحبشة ، فقدموا صحبة جعفر وقد فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر قال ابن هشام : وذكر سفيان بن عيينة ، عن الأجلح ، عن الشعبي ، أن جعفر بن أبي طالب قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح خيبر ، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عينيه والتزمه ، وقال : " ما أدري بأيهما أنا أسر ، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ؟ " وهكذا رواه سفيان الثوري ، عن [ ص: 318 ] الأجلح ، عن الشعبي مرسلا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأسند البيهقي ، من طريق حسن بن حسين العرني ، عن الأجلح عن الشعبي ، عن جابر ، قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر قدم جعفر من الحبشة ، فتلقاه وقبل جبهته وقال : والله ما أدري بأيهما أفرح ، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ ، ثنا أبو الحسين بن أبي إسماعيل العلوي ، ثنا أحمد بن محمد البيروتي ، ثنا محمد بن أحمد بن أبي طيبة ، حدثني مكي بن إبراهيم الرعيني ، ثنا سفيان الثوري ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : لما قدم جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة ، تلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما نظر جعفر إليه حجل - قال مكي : يعني مشى على رجل واحدة ، إعظاما لرسول الله صلى الله عليه وسلم - فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عينيه . ثم قال البيهقي : في إسناده من لا يعرف إلى الثوري .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق : وكان الذين تأخروا مع جعفر من أهل مكة إلى أن [ ص: 319 ] قدموا معه خيبر ستة عشر رجلا وسرد أسماءهم وأسماء نسائهم وهم ، جعفر بن أبي طالب الهاشمي ، وامرأته أسماء بنت عميس ، وابنه عبد الله ، ولد بالحبشة ، وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس ، وامرأته أمينة بنت خلف بن أسعد ، وولداه سعيد وأمة بنت خالد ، ولدا بأرض الحبشة ، وأخوه عمرو بن سعيد بن العاص ، ومعيقيب بن أبي فاطمة ، وكان إلى آل سعيد بن العاص . قال : وأبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس ، حليف آل عتبة بن ربيعة ، وأسود بن نوفل بن خويلد بن أسد الأسدي ، وجهم بن قيس بن عبد شرحبيل العبدري ، وقد ماتت امرأته أم حرملة بنت عبد الأسود بأرض الحبشة ، وابنه عمرو وابنته خزيمة ماتا بها ، رحمهم الله ، وعامر بن أبي وقاص الزهري ، وعتبة بن مسعود ، حليف لهم من هذيل ، والحارث بن خالد بن صخر التيمي ، وقد هلكت بها امرأته ريطة بنت الحارث ، رحمها الله ، وعثمان بن ربيعة بن أهبان الجمحي ، ومحمية بن جزء الزبيدي حليف بني سهم ، ومعمر بن عبد الله بن نضلة العدوي ، وأبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس ، ومالك بن ربيعة بن قيس بن عبد شمس العامريان ، ومع مالك هذا امرأته عمرة بنت السعدي ، والحارث بن عبد قيس بن لقيط الفهري .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قلت : ولم يذكر ابن إسحاق أسماء الأشعريين الذين كانوا مع أبي موسى الأشعري ، وأخويه أبا بردة وأبا رهم ، وعمه أبا عامر ، بل لم يذكر من [ ص: 320 ] الأشعريين غير أبي موسى ، ولم يتعرض لذكر أخويه وهما أسن منه ، كما تقدم في " صحيح البخاري " وكأن ابن إسحاق ، رحمه الله ، لم يطلع على حديث أبي موسى في ذلك . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : وقد كان معهم في السفينتين نساء ، من نساء من هلك من المسلمين هنالك . وقد حرر هاهنا شيئا كثيرا حسنا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله ، ثنا سفيان ، سمعت الزهري وسأله إسماعيل بن أمية ، قال : أخبرني عنبسة بن سعيد ، أن أبا هريرة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله - يعني أن يقسم له - فقال بعض بني سعيد بن العاص : لا تعطه . فقال أبو هريرة هذا قاتل ابن قوقل . فقال : واعجبا لوبر تدلى من قدوم الضأن! تفرد به دون مسلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال البخاري : ويذكر عن الزبيدي ، عن الزهري ، أخبرني عنبسة بن سعيد ، أنه سمع أبا هريرة يخبر سعيد بن العاص قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 321 ] أبان على سرية من المدينة قبل نجد . قال أبو هريرة : فقدم أبان وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر بعدما افتتحها ، وإن حزم خيلهم لليف . قال أبو هريرة فقلت : يا رسول الله ، لا تقسم لهم . فقال أبان : وأنت بهذا يا وبر تحدر من رأس ضال ؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا أبان ، اجلس " . ولم يقسم لهم وقد أسند أبو داود هذا الحديث ، عن سعيد بن منصور ، عن إسماعيل بن عياش ، عن محمد بن الوليد الزبيدي ، به نحوه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال البخاري : حدثنا موسى بن إسماعيل ، ثنا عمرو بن يحيى بن سعيد ، أخبرني جدي - وهو سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص - أن أبان بن سعيد أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه ، فقال أبو هريرة : يا رسول الله ، هذا قاتل ابن قوقل . فقال أبان لأبي هريرة : واعجبا لك ، وبر تردى من قدوم ضال! تنعى علي امرأ أكرمه الله بيدي ، ومنعه أن يهينني بيده ؟! هكذا رواه منفردا به هاهنا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال في الجهاد : حدثنا الحميدي ، عن سفيان ، عن الزهري ، عن [ ص: 322 ] عنبسة بن سعيد ، عن أبي هريرة قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بعدما افتتحها ، فقلت : يا رسول الله ، أسهم لي . فقال بعض آل سعيد بن العاص : لا تقسم له . فقلت : يا رسول الله ، هذا قاتل ابن قوقل . الحديث . قال سفيان : حدثنيه السعيدي - يعني عمرو بن يحيى بن سعيد - عن جده ، عن أبي هريرة بهذا . ففي هذا الحديث التصريح من أبي هريرة بأنه لم يشهد خيبر وتقدم في أول هذه الغزوة ، رواه الإمام أحمد من طريق عراك بن مالك ، عن أبي هريرة ، وأنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما افتتح خيبر فكلم المسلمين ، فأشركونا في أسهامهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الإمام أحمد : حدثنا روح ، ثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن عمار بن أبي عمار قال : قال أبو هريرة : ما شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مغنما قط إلا قسم لي ، إلا خيبر ، فإنها كانت لأهل الحديبية خاصة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قلت : وكان أبو هريرة وأبو موسى ، جاءا بين الحديبية وخيبر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد قال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا معاوية بن عمرو ، ثنا أبو إسحاق ، عن مالك بن أنس ، حدثني ثور ، حدثني سالم مولى عبد الله بن مطيع ، أنه سمع أبا هريرة يقول : افتتحنا خيبر فلم نغنم ذهبا ولا فضة ، إنما [ ص: 323 ] غنمنا الإبل ، والبقر ، والمتاع ، والحوائط ، ثم انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى ، ومعه عبد له يقال له : مدعم . أهداه له بعض بني الضبيب ، فبينما هو يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم عائر ، حتى أصاب ذلك العبد ، فقال الناس : هنيئا له الشهادة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلا ، والذي نفسي بيده إن الشملة التي أصابها يوم خيبر ، لم تصبها المقاسم ، لتشتعل عليه نارا " . فجاء رجل حين سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراك أو شراكين فقال : هذا شيء كنت أصبته . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " شراك أو شراكان من نار .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية