الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 622 ] ذكر إفاضته صلى الله عليه وسلم إلى البيت العتيق

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال جابر : ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيت ، فصلى بمكة الظهر ، فأتى بني عبد المطلب وهم يسقون على زمزم ، فقال : " انزعوا بني عبد المطلب ، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم " . فناولوه دلوا فشرب منه . رواه مسلم . ففي هذا السياق ما يدل على أنه ، عليه الصلاة والسلام ، ركب إلى مكة قبل الزوال ، فطاف بالبيت ، ثم لما فرغ صلى الظهر هناك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال مسلم أيضا : أخبرنا محمد بن رافع ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر ، ثم رجع فصلى الظهر بمنى . وهذا خلاف حديث جابر ، وكلاهما عند مسلم ، فإن عملنا بهما أمكن أن يقال أنه ، عليه الصلاة والسلام صلى الظهر بمكة ، ثم رجع إلى منى فوجد الناس ينتظرونه ، فصلى بهم . والله أعلم . ورجوعه ، عليه الصلاة والسلام ، إلى منى في وقت الظهر ممكن ; لأن ذلك الوقت كان صيفا ، والنهار طويل ، وإن كان قد صدر منه ، عليه الصلاة والسلام ، أفعال كثيرة في صدر هذا النهار ; فإنه دفع فيه من المزدلفة بعد ما أسفر الفجر جدا ، ولكنه قبل طلوع الشمس ، ثم قدم منى فبدأ برمي جمرة العقبة بسبع حصيات ، ثم جاء فنحر بيده ثلاثا وستين بدنة ، ونحر علي بقية المائة ، ثم أخذ من كل بدنة [ ص: 623 ] بضعة ، ووضعت في قدر ، وطبخت حتى نضجت ، فأكل من ذلك اللحم ، وشرب من ذلك المرق ، وفي غضون ذلك حلق رأسه ، عليه الصلاة والسلام ، وتطيب ، فلما فرغ من هذا كله ركب إلى البيت ، وقد خطب عليه الصلاة والسلام في هذا اليوم خطبة عظيمة ، ولست أدري أكانت قبل ذهابه إلى البيت أو بعد رجوعه منه إلى منى . فالله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      والمقصود أنه ركب إلى البيت فطاف به سبعة أطواف راكبا ، ولم يطف بين الصفا والمروة كما ثبت في " صحيح مسلم " عن جابر وعائشة ، رضي الله عنهما ، ثم شرب من ماء زمزم ، ومن نبيذ بتمر من ماء زمزم . فهذا كله مما يقوي قول من قال أنه ، عليه الصلاة والسلام ، صلى الظهر بمكة . كما رواه جابر . ويحتمل أنه رجع إلى منى في آخر وقت الظهر ، فصلى بأصحابه بمنى الظهر أيضا ، وهذا هو الذي أشكل على ابن حزم ، فلم يدر ما يقول فيه ، وهو معذور لتعارض الروايات الصحيحة فيه . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو داود : ثنا علي بن بحر وعبد الله بن سعيد ، المعنى ، قالا : ثنا أبو خالد الأحمر ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر ، ثم رجع إلى منى ، فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس ، كل جمرة بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 624 ] قال ابن حزم : فهذا جابر وعائشة قد اتفقا على أنه ، عليه الصلاة والسلام ، صلى الظهر يوم النحر بمكة ، وهما ، والله أعلم ، أضبط لذلك من ابن عمر . كذا قال ، وليس بشيء ، فإن رواية عائشة هذه ليست ناصة أنه ، عليه الصلاة والسلام ، صلى الظهر بمكة ، بل محتملة ; إن كان المحفوظ في الرواية : حتى صلى الظهر . وإن كانت الرواية : حين صلى الظهر . وهو الأشبه ; فإن ذلك دليل على أنه ، عليه الصلاة والسلام ، صلى الظهر بمنى قبل أن يذهب إلى البيت ، وهو محتمل . والله سبحانه وتعالى أعلم . وعلى هذا فيبقى مخالفا لحديث جابر ، فإن هذا يقتضي أنه صلى الظهر بمنى قبل أن يركب إلى البيت ، وحديث جابر يقتضي أنه ركب إلى البيت قبل أن يصلي الظهر وصلاها بمكة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد قال البخاري : وقال أبو الزبير ، عن عائشة وابن عباس : أخر النبي صلى الله عليه وسلم الزيارة - يعني طواف الزيارة - إلى الليل . وهذا الذي علقه البخاري قد رواه الناس من حديث أبي حذيفة ، ويحيى بن سعيد ، وعبد الرحمن بن مهدي ، ونوح بن ميمون ، عن سفيان الثوري ، عن أبي الزبير ، عن عائشة وابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الطواف يوم النحر إلى الليل . ورواه أهل السنن الأربعة من حديث سفيان به . وقال الترمذي : حسن .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 625 ] وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبد الله ، ثنا سفيان ، عن أبي الزبير ، عن عائشة وابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار ليلا . فإن حمل هذا على أنه أخر ذلك إلى ما بعد الزوال ، كأنه يقول : إلى العشي . صح ذلك . وأما إن حمل على ما بعد الغروب فهو بعيد جدا ، ومخالف لما ثبت في الأحاديث الصحيحة المشهورة من أنه ، عليه الصلاة والسلام ، طاف يوم النحر نهارا ، وشرب من سقاية زمزم . وأما الطواف الذي ذهب في الليل إلى البيت بسببه فهو طواف الوداع - ومن الرواة من يعبر عنه بطواف الزيارة كما سنذكره إن شاء الله - أو طواف زيارة محضة قبل طواف الوداع ، وبعد طواف الصدر الذي هو طواف الفرض . وقد ورد حديث سنذكره في موضعه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت كل ليلة من ليالي منى ، وهذا بعيد أيضا . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد روى الحافظ البيهقي من حديث عمر بن قيس ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه ، فزاروا البيت يوم النحر ظهيرة ، وزار رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نسائه ليلا . وهذا حديث غريب جدا أيضا ، وهذا قول طاوس وعروة بن الزبير ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر الطواف يوم النحر إلى الليل . والصحيح من الروايات ، وعليه الجمهور ، أنه ، [ ص: 626 ] عليه الصلاة والسلام ، طاف يوم النحر بالنهار ، والأشبه أنه كان قبل الزوال ، ويحتمل أن يكون بعده . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      والمقصود أنه ، عليه الصلاة والسلام ، لما قدم مكة طاف بالبيت سبعا وهو راكب ، ثم جاء زمزم وبنو عبد المطلب يستقون منها ، ويسقون الناس ، فتناول منها دلوا فشرب منه ، وأفرغ عليه منه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كما قال مسلم : ثنا محمد بن منهال الضرير ، ثنا يزيد بن زريع ، ثنا حميد الطويل ، عن بكر بن عبد الله المزني ، سمع ابن عباس يقول وهو جالس معه عند الكعبة : قدم النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته وخلفه أسامة ، فأتيناه بإناء فيه نبيذ فشرب ، وسقى فضله أسامة ، وقال : " أحسنتم وأجملتم ، هكذا فاصنعوا " . قال ابن عباس : فنحن لا نريد أن نغير ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفي رواية عن بكر أن أعرابيا قال لابن عباس : مالي أرى بني عمكم يسقون اللبن والعسل وأنتم تسقون النبيذ ؟ أمن حاجة بكم ، أم من بخل ؟ فذكر له ابن عباس هذا الحديث .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أحمد : حدثنا روح ، ثنا حماد ، عن حميد ، عن بكر ، عن عبد الله ، أن أعرابيا قال لابن عباس : ما شأن آل معاوية يسقون الماء والعسل ، وآل فلان يسقون اللبن ، وأنتم تسقون النبيذ ؟ أمن بخل بكم أو حاجة ؟ فقال ابن عباس : ما بنا بخل ولا حاجة ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءنا ورديفه أسامة بن زيد ، فاستسقى فسقيناه من هذا - يعني نبيذ السقاية - فشرب منه ، وقال : [ ص: 627 ] " أحسنتم ، هكذا فاصنعوا " . ورواه أحمد ، عن روح ومحمد بن بكر ، عن ابن جريج ، عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، وداود بن علي بن عبد الله بن عباس ، عن ابن عباس ، فذكره .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروى البخاري عن إسحاق بن شاهين ، عن خالد ، عن خالد الحذاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السقاية فاستسقى ، فقال العباس : يا فضل اذهب إلى أمك فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها . فقال : " اسقني " . فقال : يا رسول الله ، إنهم يجعلون أيديهم فيه . قال : " اسقني " . فشرب منه ، ثم أتى زمزم وهم يسقون ، ويعملون فيها ، فقال : " اعملوا فإنكم على عمل صالح " . ثم قال : " لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذه " . يعني عاتقه ، وأشار إلى عاتقه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وعنده من حديث عاصم ، عن الشعبي ، أن ابن عباس قال : سقيت النبي صلى الله عليه وسلم من زمزم ، فشرب وهو قائم . قال عاصم : فحلف عكرمة : ما كان يومئذ إلا على بعير . وفي رواية : ناقته .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الإمام أحمد : ثنا هشيم ، ثنا يزيد بن أبي زياد ، عن عكرمة ، عن ابن [ ص: 628 ] عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت وهو على بعير ، واستلم الحجر بمحجن كان معه . قال : وأتى السقاية فقال : " اسقوني " . فقالوا : إن هذا يخوضه الناس ، ولكنا نأتيك به من البيت . فقال : " لا حاجة لي فيه ، اسقوني مما يشرب منه الناس " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد روى أبو داود ، عن مسدد ، عن خالد الطحان ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ونحن نستقي ، فطاف على راحلته . الحديث .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الإمام أحمد : حدثنا روح وعفان ، قالا : ثنا حماد ، عن قيس - وقال عفان في حديثه : أنبأنا قيس - عن مجاهد ، عن ابن عباس ، أنه قال : جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمزم فنزعنا له دلوا فشرب ثم مج فيها ثم أفرغناها في زمزم ثم قال : " لولا أن تغلبوا عليها لنزعت بيدي " . انفرد به أحمد وإسناده على شرط مسلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية