الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      مقتل أبي رافع

                                                                                      وهو سلام بن أبي الحقيق ; وقيل : عبد الله بن أبي الحقيق اليهودي ، لعنه الله .

                                                                                      قال البكائي ، عن ابن إسحاق : ولما انقضى شأن الخندق وأمر بني قريظة ، وكان سلام بن أبي الحقيق أبو رافع فيمن حزب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكانت الأوس قبل أحد قد قتلت كعب بن الأشرف . فاستأذنت الخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل ابن أبي الحقيق وهو بخيبر ، فأذن لهم .

                                                                                      وحدثني الزهري ، عن عبد الله بن كعب بن مالك ، قال : كان مما صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ; أن هذين الحيين من الأنصار كانا يتصاولان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تصاول الفحلين لا تصنع الأوس شيئا فيه غناء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قالت الخزرج : والله لا يذهبون بهذه فضلا علينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الإسلام . فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها . وإذا فعلت الخزرج شيئا قالت الأوس مثل ذلك .

                                                                                      ولما أصابت الأوس كعب بن الأشرف في عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الخزرج : والله لا يذهبون بهذه فضلا علينا . فتذاكروا من رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم كابن الأشرف ، فذكروا ابن أبي الحقيق وهو بخيبر . [ ص: 13 ] فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأذن لهم . فخرج إليه من الخزرج خمسة من بني سلمة : عبد الله بن عتيك ، ومسعود بن سنان ، وعبد الله بن أنيس ، وأبو قتادة بن ربعي ، وآخر حليف لهم . فأمر عليهم ابن عتيك ، فخرجوا حتى قدموا خيبر ، فأتوا دار ابن أبي الحقيق ليلا ، فلم يدعوا بيتا في الدار إلا أغلقوه على أهله ، ثم قاموا على بابه فاستأذنوا ، فخرجت إليهم امرأته فقالت : من أنتم ؟ قالوا : نلتمس الميرة . قالت : ذاكم صاحبكم ، فادخلوا عليه .

                                                                                      قال : فلما دخلنا أغلقنا علينا وعليها الحجرة تخوفا أن تكون دونه مجاولة تحول بيننا وبينه . قال : فصاحت امرأته فنوهت بنا ، وابتدرناه وهو على فراشه ، والله ما يدلنا عليه في سواد البيت إلا بياضه ، كأنه قبطية ملقاة . فلما صاحت علينا جعل الرجل منا يرفع سيفه عليها ثم يذكر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء ، فيكف يده . فلما ضربناه بأسيافنا تحامل عليه عبد الله بن أنيس بسيفه في بطنه حتى أنفذه ، وهو يقول : قطني قطني ; أي : حسبي . قال : وخرجنا ، وكان ابن عتيك سيئ البصر فوقع من الدرجة ، فوثئت يده وثأ شديدا وحملناه حتى نأتي منهرا من عيونهم فندخل فيه . فأوقدوا النيران واشتدوا في كل وجه يطلبون ، حتى إذا يئسوا رجعوا إلى صاحبهم فاكتنفوه . فقلنا : كيف لنا بأن نعلم أنه هلك ؟ فقال رجل منا : أنا أذهب فأنظر لكم . فانطلق حتى دخل في الناس . قال : فوجدتها وفي يدها المصباح وحوله رجال وهي تنظر في وجهه وتحدثهم وتقول : أما والله لقد سمعت صوت ابن عتيك [ ص: 14 ] ثم أكذبت نفسي فقلت : أنى ابن عتيك بهذه البلاد ؟ ثم أقبلت عليه تنظر في وجهه ، ثم قالت : فاض وإله يهود . فما سمعت من كلمة كانت ألذ إلي منها . قال : ثم جاء فأخبرنا الخبر ، فاحتملنا صاحبنا فقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه واختلفنا في قتله ، فكلنا يدعيه . فقال : هاتوا أسيافكم ، فجئناه بها فنظر إليها ، فقال لسيف عبد الله بن أنيس : هذا قتله ، أرى فيه أثر الطعام والشراب .

                                                                                      وقال زكريا بن أبي زائدة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطا من الأنصار إلى أبي رافع ، فدخل عليه عبد الله بن عتيك بيته ليلا فقتله وهو نائم . أخرجه البخاري .

                                                                                      وقال إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع رجالا من الأنصار ، عليهم عبد الله - يعني ابن عتيك . وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعين عليه ، وكان في حصن له بأرض الحجاز . فلما دنوا وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم ; قال عبد الله لأصحابه : اجلسوا مكانكم فإني منطلق فمتلطف للبواب لعلي أدخل . فأقبل حتى دنا من الباب ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته . وقد دخل الناس ، فهتف به البواب : يا عبد الله إن كنت تريد أن تدخل فادخل لأغلق . فدخلت فكمنت ، فأغلق الباب وعلق الأقاليد على ود ، فقمت ففتحت الباب .

                                                                                      وكان أبو رافع يسمر عنده وكان في علالي فلما أن ذهب عنه [ ص: 15 ] أهل سمره صعدت إليه ، وجعلت كلما فتحت بابا أغلقته علي من داخل ، وقلت : إن القوم نذروا بي لم يخلصوا إلي حتى أقتله . فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله ، لا أدري أين هو من البيت . قلت : يا أبا رافع ، قال : من هذا ؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف ، وأنا دهش ، فما أغني شيئا ، فصاح ، فخرجت من البيت فأمكث غير بعيد ، ثم دخلت إليه فقلت : ما هذا الضرب يا أبا رافع ؟ قال : لأمك الويل ، إن رجلا في البيت ضربني قبل بالسيف . قال : فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله ، ثم وضعت صدر السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره فعلمت أني قد قتلته ، فجعلت أفتح الأبواب بابا فبابا حتى انتهيت إلى درجة ، فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض ، فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي ، فعصبتها بعمامتي ، ثم انطلقت حتى جلست عند الباب . فقلت : لا أبرح الليلة حتى أعلم أقتلته أم لا . فلما صاح الديك قام الناعي على السور فقال : أنعى أبا رافع . فانطلقت إلى أصحابي ، فقلت : النجاء النجاء ، فقد قتل الله أبا رافع ، فانتهينا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحدثناه فقال : ابسط رجلك ، فبسطتها ، فمسحها ، فكأنما لم أشكها قط
                                                                                      . أخرجه البخاري .

                                                                                      وأخرجه أيضا من حديث إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق ، عن أبيه ، عن جده ، عن البراء بنحوه . وفيه : ثم انطلقت إلى أبواب بيوتهم فغلقتها عليهم من ظاهر . وفيه : ثم جئت كأني أغيثه وغيرت صوتي ، وقلت : ما لك يا أبا رافع . قال : ألا أعجبك ، دخل علي رجل فضربني بالسيف . قال : فعمدت له أيضا فأضربه أخرى فلم تغن شيئا . فصاح وقام أهله ، ثم جئت وغيرت صوتي كهيئة المغيث ، وإذا هو [ ص: 16 ] مستلق على ظهره ، فأضع السيف في بطنه ثم أتكئ عليه حتى سمعت صوت العظم . ثم خرجت دهشا إلى السلم ، فسقطت فاختلعت رجلي فعصبتها . ثم أتيت أصحابي أحجل فقلت : انطلقوا فبشروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني لا أبرح حتى أسمع الناعية . فلما كان وجه الصبح صعد الناعية ، فقال : أنعى أبا رافع . فقمت أمشي ، ما بي قلبة ، فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فبشرته .

                                                                                      وقال ابن لهيعة : حدثنا أبو الأسود ، عن عروة ، قال : كان سلام بن أبي الحقيق قد أجلب في غطفان ومن حوله من مشركي العرب يدعوهم إلى قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويجعل لهم الجعل العظيم . فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليه جماعة فبيتوه ليلا .

                                                                                      وقال موسى بن عقبة في مغازيه : فطرقوا أبا رافع اليهودي بخيبر فقتلوه في بيته .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية