الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      [ ص: 54 ]

                                                                                      نزول سورة الفتح

                                                                                      قال مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره ، وعمر معه ليلا . فسأله عمر عن شيء فلم يجبه ، ثم سأله فلم يجبه ، ثم سأله فلم يجبه ، فقال عمر : ثكلتك أمك ، نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فحركت بعيري حتى تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في قرآن ، فلم أنشب أن سمعت صارخا يصرخ ، قال : قلت : لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن ، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه ، فقال : " لقد أنزلت علي الليلة سورة هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس " ثم قرأ : ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا 1 ( 1 ) ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ( 2 ) ) [ الفتح ] . أخرجه البخاري .

                                                                                      وقال يونس بن بكير ، عن عبد الرحمن المسعودي ، عن جامع بن شداد ، عن عبد الرحمن بن أبي علقمة ، عن ابن مسعود ; قال : لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية ، جعلت ناقته تثقل ، فتقدمنا ، فأنزل عليه : ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ) .

                                                                                      وقال شعبة ، عن قتادة ، عن أنس : ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ( 1 ) ) قال : فتح الحديبية ، فقال رجل : هنيئا مريئا يا رسول الله هذا لك ، فما لنا ؟ فأنزلت : ( ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات ( 5 ) ) [ الفتح ] .

                                                                                      قال شعبة : فقدمت الكوفة فحدثتهم عن قتادة ، عن أنس ، ثم قدمت البصرة فذكرت ذلك لقتادة ، فقال : أما الأول فعن أنس ، وأما الثاني : [ ص: 55 ] ( ليدخل المؤمنين والمؤمنات ) ، فعن عكرمة ، أخرجه البخاري .

                                                                                      وقال همام : حدثنا قتادة ، عن أنس ، قال : لما نزلت : ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ) إلى آخر الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من الحديبية ، وأصحابه مخالطوا الحزن والكآبة ، فقال : " نزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا " فلما تلاها قال رجل : قد بين الله لك ما يفعل بك ، فماذا يفعل بنا ؟ فأنزلت التي بعدها : ( ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار ) . أخرجه مسلم .

                                                                                      وقال يونس ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن عروة ، عن المسور ، ومروان قالا في قصة الحديبية : ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا ، فلما أن كان بين مكة والمدينة نزلت عليه سورة الفتح . فكانت القصة في سورة الفتح وما ذكر الله من بيعة الرضوان تحت الشجرة . فلما أمن الناس وتفاوضوا ، لم يكلم أحد بالإسلام إلا دخل فيه . فلقد دخل في تينك السنتين في الإسلام أكثر مما كان فيه قبل ذلك . وكان صلح الحديبية فتحا عظيما .

                                                                                      وقال ابن لهيعة : حدثنا أبو الأسود ، عن عروة ; قالوا : وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية راجعا . فقال رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله ما هذا بفتح ; لقد صددنا عن البيت وصد هدينا ، وعكف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من المسلمين خرجا . فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قول رجال من أصحابه : إن هذا ليس بفتح ، فقال : " بئس الكلام ، هذا أعظم الفتح ، لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألونكم القضية ويرغبون إليكم في الأمان ، وقد رأوا منكم ما [ ص: 56 ] كرهوا ، وقد أظفركم الله عليهم وردكم سالمين غانمين مأجورين ، فهذا أعظم الفتوح . أنسيتم يوم أحد ، إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم ؟ أنسيتم يوم الأحزاب ، إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم ؟ " فقال المسلمون : صدق الله ورسوله ، هذا أعظم الفتوح والله يا نبي الله .

                                                                                      وقال ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، قال : ظهرت الروم على فارس عند مرجع المسلمين من الحديبية . قال مثل ذلك عقيل ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود .

                                                                                      وكانت بين الروم وبين فارس ملحمة مشهودة نصر الله تعالى فيها الروم ، ففرح المسلمون بذلك ، لكون أهل الكتاب في الجملة نصروا على المجوس .

                                                                                      وقال مغيرة ، عن الشعبي في قوله : ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ( 1 ) ) ; قال : فتح الحديبية ، وبايعوا بيعة الرضوان ، وأطعموا نخيل خيبر ، وظهرت الروم على فارس . ففرح المؤمنون بتصديق كتاب الله ونصر أهل الكتاب على المجوس .

                                                                                      وقال شعبة ، عن الحكم ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى : ( وأثابهم فتحا قريبا ( 18 ) ) [ الفتح ] قال : خيبر . ( وأخرى لم تقدروا عليها ( 21 ) ) [ الفتح ] قال : فارس والروم . وقال ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : أري رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالحديبية أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين ، فقالوا له حين نحر بالحديبية : أين رؤياك يا رسول الله ؟ فأنزل الله : ( لقد صدق الله رسوله الرءيا بالحق ) إلى قوله ( فجعل من دون ذلك فتحا قريبا ( 27 ) ) [ الفتح ] يعني النحر بالحديبية ، ثم رجعوا ففتحوا [ ص: 57 ] خيبر ، فكان تصديق رؤياه في السنة المقبلة .

                                                                                      وقال هشيم : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، وعكرمة : ( ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد ( 16 ) ) [ الفتح ] قالا : هوازن يوم حنين رواه سعيد بن منصور في سننه .

                                                                                      وقال بندار : حدثنا غندر ، قال : حدثنا شعبة ، عن هشيم ، فذكره وزاد : هوازن وبنو حنيفة .

                                                                                      وقال عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، في قوله : ( أولي بأس شديد ) قال : فارس وقال : ( السكينة ) هي الرحمة .

                                                                                      وقال أبو حذيفة النهدي : حدثنا سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، عن أبي الأحوص ، عن علي ( هو الذى أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ( 4 ) ) [ الفتح ] قال : السكينة لها وجه كوجه الإنسان ، ثم هي بعد ريح هفافة .

                                                                                      وقال ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : السكينة كهيئة الريح ، لها رأس كرأس الهرة وجناحان .

                                                                                      وقال المسعودي ، عن قتادة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( تصيبهم بما صنعوا قارعة ) ، قال السرية ، ( أو تحل قريبا من دارهم ) قال : هو محمد صلى الله عليه وسلم . ( حتى يأتي وعد الله ( 31 ) ) [ الرعد ] قال : فتح مكة .

                                                                                      وعن مجاهد : ( أو تحل قريبا من دارهم ) ، قال : الحديبية ونحوها رواه شريك ، عن منصور ، عنه .

                                                                                      وقال الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب : أخبرني عروة أنه سمع مروان بن الحكم ، والمسور ، يخبران عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كاتب سهيل بن عمرو ، فذكر الحديث ، وفيه : وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ [ ص: 58 ] وهي عاتق ، فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله فيهن : ( إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ( 10 ) ) [ الممتحنة ] .

                                                                                      قال عروة : فأخبرتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحنهن بهذه الآية : ( إذا جاءك المؤمنات يبايعنك ( 12 ) ) [ الممتحنة ] الآية . قالت : فمن أقر بهذا الشرط منهن قال لها : قد بايعتك ، كلاما يكلمها به ، والله ما مست يده امرأة قط في المبايعة ، ما بايعهن إلا بقوله . أخرجه البخاري .

                                                                                      وقال موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب ، قال : ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة انفلت من ثقيف أبو بصير بن أسيد بن جارية الثقفي من المشركين ، فذكر من أمره نحوا مما قدمناه . وفيه زيادة وهي : فخرج أبو بصير معه خمسة كانوا قدموا من مكة ، ولم ترسل قريش في طلبهم كما أرسلوا في أبي بصير ، حتى كانوا بين العيص وذي المروة من أرض جهينة على طريق عير قريش مما يلي سيف البحر ، لا يمر بهم عير لقريش إلا أخذوها وقتلوا أصحابها . وانفلت أبو جندل في سبعين راكبا أسلموا وهاجروا ، فلحقوا بأبي بصير ، وقطعوا مادة قريش من الشام ، وكان أبو بصير يصلي بأصحابه ، فلما قدم عليه أبو جندل كان يؤمهم .

                                                                                      واجتمع إلى أبي جندل حين سمعوا بقدومه ناس من بني غفار [ ص: 59 ] وأسلم وجهينة وطوائف ، حتى بلغوا ثلاث مائة مقاتل وهم مسلمون ، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألون أن يبعث إلى أبي بصير ومن معه فيقدموا عليه ، وقالوا : من خرج منا إليك فأمسكه ، قال : ومر بأبي بصير أبو العاص بن الربيع من الشام فأخذوه ، فقدم على امرأته زينب سرا وقد تقدم شأنه . وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابه إلى أبي بصير أن لا يعترضوا لأحد . فقدم الكتاب على أبي جندل وأبي بصير ، وأبو بصير يموت ، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده يقرؤه ، فدفنه أبو جندل مكانه ، وجعل عند قبره مسجدا .

                                                                                      وقال يحيى بن أبي كثير : حدثني أبو سلمة ، أن أبا هريرة حدثه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى العشاء الآخرة نصب في الركعة الآخرة بعدما يقول : " سمع الله لمن حمده " ويقول : " اللهم نج الوليد بن الوليد ، اللهم نج سلمة بن هشام ، اللهم نج عياش بن أبي ربيعة ، اللهم نج المستضعفين من المومنين ، اللهم اشدد وطأتك على مضر ، اللهم اجعلها سنين مثل سني يوسف " ثم لم يزل يدعو حتى نجاهم الله تعالى ، ثم ترك الدعاء لهم بعد ذلك .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية