الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      [ ص: 153 ] فتح مكة

                                                                                      شرفها الله وعظمها

                                                                                      قال البكائي ، عن ابن إسحاق : ثم إن بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عدت على خزاعة ، وهم على ماء بأسفل مكة يقال له الوتير . وكان الذي هاج ما بين بكر وخزاعة أن رجلا من بني الحضرمي خرج تاجرا ، فلما توسط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه وأخذوا ماله . فعدت بنو بكر على رجل من خزاعة فقتلوه ، فعدت خزاعة قبيل الإسلام على سلمى وكلثوم وذؤيب بني الأسود بن رزن الديلي ، وهم مفخر بني كنانة وأشرافهم ، فقتلوهم بعرفة .

                                                                                      فبينا بنو بكر وخزاعة على ذلك حجز بينهم الإسلام ، وتشاغل الناس به . فلما كان صلح الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش ، كان فيما شرطوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشرط لهم أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله وعهده فليدخل معه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه . فدخلت بنو بكر في عقد قريش ، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنها وكافرها .

                                                                                      فلما كانت الهدنة اغتنمها بنو الديل ، أحد بني بكر من خزاعة ، وأرادوا أن يصيبوا منهم ثأرا بأولئك الإخوة . فخرج نوفل بن معاوية الديلي في قومه حتى بيت خزاعة على الوتير ، فاقتتلوا . وردفت قريش [ ص: 154 ] بني الديل بالسلاح ، وقوم من قريش أعانت خزاعة بأنفسهم ، مستخفين بذلك ، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم . فقال قوم نوفل له : اتق إلهك ولا تستحل الحرم . فقال : لا إله لي اليوم ، والله يا بني كنانة إنكم لتسرقون في الحرم ، أفلا تصيبون فيه ثأركم ؟ فقتلوا رجلا من خزاعة . ولجأت خزاعة إلى دار بديل بن ورقاء الخزاعي ، ودار رافع مولى خزاعة .

                                                                                      فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة ، كان ذلك نقضا للهدنة التي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم . وخرج عمرو بن سالم الخزاعي فقدم على النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة مستغيثين به ، فوقف عمرو عليه ، وهو جالس في المسجد بين ظهري الناس ، فقال :



                                                                                      يا رب إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا     قد كنتم ولدا وكنا والدا
                                                                                      ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا     فانصر هداك الله نصرا أعتدا
                                                                                      وادع عباد الله يأتوا مدا     فيهم رسول الله قد تجردا
                                                                                      إن سيم خسفا وجهه تربدا     في فيلق كالبحر يجري مزبدا
                                                                                      إن قريشا أخلفوك الموعدا     ونقضوا ميثاقك المؤكدا
                                                                                      وجعلوا لي في كداء رصدا     وزعموا أن لست أدعو أحدا
                                                                                      وهم أذل وأقل عددا     هم بيتونا بالوتير هجدا وقتلونا ركعا وسجدا
                                                                                      فانصر ، هداك الله ، نصرا أيدا

                                                                                      فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نصرت يا عمرو بن سالم " .

                                                                                      ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنان من السماء ، فقال : إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب ; يعني خزاعة
                                                                                      . رواه أطوال من هذا يونس بن [ ص: 155 ] بكير ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري سماعا ، عن عروة ، عن المسور بن مخرمة ، ومروان بن الحكم .

                                                                                      وقال ابن إسحاق : ثم قدم بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد ويزيد في المدة . ومضى بديل وأصحابه فلقوا أبا سفيان بن حرب بعسفان ، قد جاء ليشد العقد ويزيد في المدة ، وقد رهبوا الذي صنعوا . فلما لقي بديل بن ورقاء ، قال : من أين أقبلت يا بديل ؟ وظن أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : سرت في خزاعة على الساحل . فقال : أو ما جئت محمدا ؟ قال : لا . فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان : لئن كان جاء إلى المدينة لقد علف بها النوى . فأتى مبرك راحلته ففته فرأى فيه النوى ، فقال : أحلف بالله لقد أتى محمدا .

                                                                                      ثم قدم أبو سفيان المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة أم المؤمنين . فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه ، فقال : ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني ؟ قالت : بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنت رجل مشرك ، نجس . قال : والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر .

                                                                                      ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه شيئا . فذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما أنا بفاعل . ثم أتى عمر فكلمه فقال : أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فوالله لو لم أجد إلا الذر لجالدتكم عليه . ثم خرج حتى أتى عليا رضي الله عنه وعنده فاطمة وابنها الحسن وهو غلام يدب ، فقال : يا علي إنك أمس القوم بي رحما ، وإني قد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائبا ، فاشفع لي إلى رسول الله . فقال : ويحك يا أبا سفيان ، لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على [ ص: 156 ] أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه . فالتفت إلى فاطمة فقال : يا ابنة محمد ، هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر ؟ قالت : والله ما بلغ بني ذلك ، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                      قال : يا أبا حسن ، إني أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني . قال : والله ما أعلم شيئا يغني عنك ، ولكنك سيد بني كنانة ، فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك . قال : أو ترى ذلك مغنيا عني شيئا ؟ قال : لا والله ما أظنه ، ولكن لا أجد لك غير ذلك . فقام أبو سفيان في المسجد ، فقال : أيها الناس إني قد أجرت بين الناس ، ثم ركب بعيره وانطلق ، فلما قدم على قريش ، قالوا : ما وراءك ؟ فقص شأنه ، وأنه أجار بين الناس . قالوا : فهل أجاز ذلك محمد ؟ قال : لا . قالوا : والله إن زاد الرجل على أن لعب بك .

                                                                                      ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز ، وأمر أهله أن يجهزوه . ثم أعلم الناس بأنه يريد مكة ، وقال : اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتهم في بلادهم .

                                                                                      فعن عروة وغيره ، قالوا : لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى مكة ، كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش بذلك مع امرأة ، فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونها ثم خرجت به . وأتى النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بفعله ، فأرسل في طلبها عليا والزبير . وذكر الحديث .

                                                                                      أخبرنا محمد بن أبي الحرم القرشي وجماعة ، قالوا : حدثنا الحسن بن يحيى المخزومي ، قال : حدثنا عبد الله بن رفاعة ، قال : أخبرنا علي بن الحسن الشافعي ، قال : أخبرنا عبد الرحمن بن عمر بن النحاس ، قال : أخبرنا عثمان بن محمد السمرقندي ، قال : حدثنا أحمد بن [ ص: 157 ] شعبان ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن حسن بن محمد ، قال : أخبرني عبيد الله بن أبي رافع - وهو كاتب علي - قال : سمعت عليا رضي الله عنه يقول : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد ، قال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها .

                                                                                      فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة . قلنا : أخرجي الكتاب ، قالت : ما معي كتاب ، قلنا : لتخرجن الكتاب أو لتقلعن الثياب . فأخرجته من عقاصها ، فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا حاطب ما هذا " ؟ قال : يا رسول الله لا تعجل ، إني كنت امرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها ، وكان من كان من المهاجرين معك لهم قرابات يحمون بها أهليهم بمكة ، ولم يكن لي قرابة ، فأحببت أن أتخذ فيهم يدا- إذا فاتني ذلك - يحمون بها قرابتي ، وما فعلته كفرا ولا ارتدادا ولا رضا بالكفر بعد الإسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه قد صدقكم " فقال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق . قال : " إنه قد شهد بدرا ، وما يدريك لعل الله تعالى اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم
                                                                                      " .

                                                                                      أخرجه البخاري عن قتيبة ، ومسلم عن ابن أبي شيبة ، وأبو داود عن مسدد ، كلهم عن سفيان .

                                                                                      أبو حذيفة النهدي : حدثنا عكرمة بن عمار ، عن أبي زميل ، عن ابن عباس ، قال : قال عمر : كتب حاطب إلى المشركين بكتاب فجيء به إلى [ ص: 158 ] النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " يا حاطب ما دعاك إلى هذا ؟ قال : كان أهلي فيهم وخشيت أن يصرموا عليهم ، فقلت : أكتب كتابا لا يضر الله ورسوله . فاخترطت السيف فقلت : يا رسول الله ، أضرب عنقه فقد كفر . فقال : " وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " هذا حديث حسن .

                                                                                      وعن ابن إسحاق نحوه ، وزاد : فنزلت : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ( 1 ) ) [ الممتحنة ] .

                                                                                      وعن ابن إسحاق ، قال : وعن ابن عباس ، قال : ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره ، واستعمل على المدينة أبا رهم الغفاري . وخرج لعشر مضين من رمضان . فصام وصام الناس معه ، حتى إذا كان بالكديد ، بين عسفان وأمج أفطر .

                                                                                      اسم أبي رهم : كلثوم بن حصين .

                                                                                      وقال سعيد بن بشير ، عن قتادة : إن خزاعة أسلمت في دارهم ، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إسلامها ، وجعل إسلامها في دارها .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية