الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      وقال إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق السبيعي ، عن أبيه ، عن جده ، عن البراء ، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أهل اليمن ، يدعوهم إلى الإسلام . قال البراء : فكنت فيمن خرج مع خالد ، فأقمنا ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوه . ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا رضي الله عنه فأمره أن يقفل خالدا ، إلا رجل كان يمم مع خالد أحب أن يعقب مع علي فليعقب معه . فكنت فيمن عقب مع علي . فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا ، فصلى بنا علي ، ثم صفنا صفا واحدا ، ثم تقدم بين أيدينا وقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأسلمت همدان جمعا . فكتب علي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما قرأ الكتاب خر ساجدا ثم رفع رأسه فقال : " السلام على همدان ، السلام على همدان " . هذا حديث صحيح [ ص: 282 ] أخرج البخاري بعضه بهذا الإسناد .

                                                                                      وقال الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي البختري ، عن علي : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ، فقلت : يا رسول الله ، تبعثني وأنا شاب أقضي بينهم ولا علم لي بالقضاء ؟ فضرب بيده في صدري ، وقال : " اللهم اهد قلبه وثبت لسانه " فما شككت في قضاء بين اثنين . أخرجه ابن ماجه .

                                                                                      وقال محمد بن علي ، وعطاء ، عن جابر ، أن عليا قدم من اليمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع . متفق عليه من حديث عطاء .

                                                                                      وقال شعبة ، وغيره ، عن سعيد بن أبي بردة ، عن أبيه ، عن أبي موسى ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه ومعاذ بن جبل إلى اليمن ، فقال : " يسرا ولا تعسرا ، وبشرا ولا تنفرا ، وتطاوعا " متفق عليه . ومن أوجه أخر بأطول من هذا .

                                                                                      وفي " الصحيح " للبخاري ، من حديث طارق بن شهاب ، عن أبي موسى ، قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض قومي . قال : فجئته وهو منيخ بالأبطح . قال : فسلمت عليه . فقال : " أحججت يا عبد الله بن قيس " ؟ قلت : نعم . قال : " كيف قلت ؟ " قال : قلت : لبيك إهلالا [ ص: 283 ] كإهلالك . فقال : " أسقت هديا ؟ " قلت : لم أسق هديا . قال : " فطف بالبيت واسع ثم حل " ففعلت . وذكر الحديث .

                                                                                      أما معاذ فالأشبه أنه لم يرجع من اليمن حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                      وقال ابن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن أبيه ، قال : هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا ، الذي كتبه لعمرو بن حزم ، حين بعثه إلى اليمن يفقه أهلها ويعلمهم السنة ويأخذ صدقاتهم ، فكتب له كتابا وعهدا وأمره فيه أمره : بسم الله الرحمن الرحيم . هذا كتاب من الله ورسوله . يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود . عهدا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن . أمره بتقوى الله في أمره كله . فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون . وأمره أن يأخذ الحق كما أمره ، وأن يبشر الناس بالخير ، ويأمرهم به ، ويعلم الناس القرآن ، ويفقههم فيه ، ولا يمس القرآن أحد ؛ إلا وهو طاهر ، ويخبر الناس بالذي لهم ، والذي عليهم ، ويلين لهم في الحق ، ويشتد عليهم في الظلم ، فإن الله كره الظلم ونهى عنه ، وقال : ( ألا لعنة الله على الظالمين ( 18 ) ) [ هود ] ويبشر الناس بالجنة وبعملها ، وينذر الناس من النار وعملها ، ويستألف الناس حتى يفقهوا في الدين ، ويعلم الناس معالم الحج وسننه وفرائضه ، وما أمر الله به ، والحج الأكبر والحج الأصغر ؛ فالحج الأصغر العمرة . وينهى الناس أن يصلي الرجل في ثوب واحد صغير ، إلا أن يكون واسعا فيخالف بين طرفيه على عاتقيه ، وينهى أن يحتبي الرجل في ثوب واحد ويفضي إلى السماء بفرجه . ولا يعقد شعر رأسه إذا عفى في قفاه . وينهى الناس إن كان بينهم هيج أن يدعوا إلى القبائل والعشائر ، وليكن دعاؤهم إلى الله وحده لا شريك له . فمن لم يدع إلى الله عز وجل ، ودعا إلى العشائر والقبائل فليعطفوا بالسيف حتى يكون دعاؤهم إلى الله وحده لا شريك له ، ويأمر الناس [ ص: 284 ] بإسباغ الوضوء ; وجوههم وأيديهم إلى المرافق ، وأرجلهم إلى الكعبين ، وأن يمسحوا رءوسهم كما أمر الله ، وأمروا بالصلاة لوقتها ، وإتمام الركوع والخشوع ، وأن يغلس بالصبح ، ويهجر بالهاجرة حين تميل الشمس ، وصلاة العصر والشمس في الأرض مدبرة ، والمغرب حين يقبل الليل ، لا تؤخر حتى تبدو النجوم في السماء ، والعشاء أول الليل . وأمره بالسعي إلى الجمعة إذا نودي بها ، والغسل عند الرواح إليها . وأمره أن يأخذ من المغانم خمس الله عز وجل ، وما كتب على المؤمنين في الصدقة من العقار فيما سقى الغيل وفيما سقت السماء العشر ، وفيما سقت الغرب فنصف العشر ، ثم ذكر زكاة الإبل والبقر ، مختصرا .

                                                                                      قال : وعلى كل حالم ، ذكر أو أنثى ، حر أو عبد ، من اليهود والنصارى ، دينار واف أو عرضه من الثياب . فمن أدى ذلك كان له ذمة الله وذمة رسوله ، ومن منع ذلك فإنه عدو الله ورسوله والمؤمنين .

                                                                                      وقد روى سليمان بن داود ، عن الزهري ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن أبيه ، عن جده ، نحو هذا الحديث موصولا ; بزيادات كثيرة في الزكاة ، ونقص عما ذكرنا في السنن .

                                                                                      وقال أبو اليمان : حدثنا صفوان بن عمرو ، عن راشد بن سعد ، عن راشد بن حميد السكوني : أن معاذا لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم يوصيه ، ومعاذ راكب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته ، فلما فرغ قال : " يا معاذ ، إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا ، ولعلك أن تمر بمسجدي وقبري " فبكى معاذ جشعا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " لا تبك يا معاذ ، البكاء من الشيطان " . [ ص: 285 ] وقال ابن إسحاق : حدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، قال : لما قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دخلوا عليه مسجده بعد العصر فحانت صلاتهم ، فقاموا يصلون في مسجده ، فأراد الناس منعهم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " دعوهم " فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم .

                                                                                      وقال ابن إسحاق : حدثني بريدة بن سفيان ، عن ابن البيلماني ، عن كرز بن علقمة ، قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران ; ستون راكبا ، منهم أربعة وعشرون من أشرافهم ، منهم : العاقب أمير القوم وذو رأيهم ، صاحب مشورتهم ، والذين لا يصدرون إلا عن رأيه وأمره ; واسمه عبد المسيح . والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم ومجمعهم ; واسمه الأيهم . وأبو حارثة بن علقمة ، أحد بكر بن وائل ; أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدراسهم .

                                                                                      وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ودرس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم . وكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه ومولوه وبنوا له الكنائس . فلما توجهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نجران ، جلس أبو حارثة على بغلة له موجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلى جنبه أخ له ، يقال له : كرز بن علقمة ; يسايره ، إذ عثرت بغلة أبي حارثة ، فقال له كرز : تعس الأبعد ; يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال له أبو حارثة : بل أنت تعست . فقال له : لم يا أخي ؟ فقال : والله إنه للنبي الذي كنا ننتظره . قال له كرز : فما يمنعك وأنت تعلم هذا ؟ قال : ما صنع بنا هؤلاء القوم ; شرفونا ومولونا ، وقد أبوا إلا خلافه ، ولو فعلت نزعوا منا كل ما ترى . فأضمر عليها أخوه كرز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك .

                                                                                      قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، قال : حدثني سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا ، فقالت [ ص: 286 ] الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهوديا ، وقالت النصارى : ما كان إلا نصرانيا . فأنزل الله فيهم : ( يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده ( 65 ) ) [ آل عمران ] .

                                                                                      فقال أبو رافع القرظي : أتريد منا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم ؟ فقال رجل من نجران يقال له الربيس : وذلك تريد يا محمد وإليه تدعو ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " معاذ الله أن آمر بعبادة غير الله " فنزلت : ( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم ( 79 ) ) [ آل عمران ] الآيات إلى قوله : ( من الشاهدين ( 81 ) ) [ آل عمران ] .

                                                                                      وقال إسرائيل وغيره ، عن أبي إسحاق ، عن صلة ، عن ابن مسعود ; ورواه شعبة ، وسفيان ، عن أبي إسحاق فقالا ؛ حذيفة بدل ابن مسعود : إن السيد والعاقب أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأراد أن يلاعنهما ، فقال أحدهما لصاحبه : لا تلاعنه ، فوالله لئن كان نبيا فلاعنته لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا . قالوا له : نعطيك ما سألت ، فابعث معنا رجلا أمينا ، ولا تبعث معنا إلا أمينا . فقال : " لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين " فاستشرف لها أصحابه . فقال : " قم يا أبا عبيدة بن الجراح " فلما قام قال : " هذا أمين هذه الأمة " أخرجه البخاري من حديث حذيفة .

                                                                                      وقال إدريس الأودي ، عن سماك بن حرب ، عن علقمة بن وائل . عن المغيرة بن شعبة ، قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران ، فقالوا فيما قالوا : أرأيت ما تقرأون ( يا أخت هارون ( 28 ) ) [ مريم ] وقد كان بين عيسى وموسى ما قد علمتم ؟ قال : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال : " أفلا [ ص: 287 ] أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم " . أخرجه مسلم . وقال ابن إسحاق : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في شهر ربيع الآخر ، أو جمادى الأولى ، سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب بنجران ، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام ، قبل أن يقاتلهم ، ثلاثا . فخرج خالد حتى قدم عليهم ، فبعث الركبان يضربون في كل وجه ويدعون إلى الإسلام ، ويقولون : أيها الناس ، أسلموا تسلموا . فأسلم الناس ، فأقام خالد يعلمهم الإسلام ، وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك . ثم قدم وفدهم مع خالد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن أعيانهم : قيس بن الحصين ذو الغصة ، ويزيد بن عبد المدان ، ويزيد بن المحجل . قال : فأمر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم قيسا .

                                                                                      وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليهم ، بعد أن ولى وفدهم ، عمرو بن حزم ليفقههم ويعلمهم السنة ، ويأخذ منهم صدقاتهم .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية