الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم

عطف على جملة من كفر بالله من بعد إيمانه إلى قوله هم الخاسرون .

[ ص: 299 ] و ( ثم ) للترتيب الرتبي ، كما هو شأنها في عطفها الجمل ؛ وذلك أن مضمون هذه الجملة المعطوفة أعظم رتبة من المعطوف عليها ؛ إذ لا أعظم من رضى الله تعالى كما قال تعالى ورضوان من الله أكبر .

والمراد بـ الذين هاجروا المهاجرون إلى الحبشة الذين أذن لهم النبيء صلى الله عليه وسلم بالهجرة للتخلص من أذى المشركين ، ولا يستقيم معنى الهجرة إلا لهذه الهجرة إلى أرض الحبشة .

قال ابن إسحاق فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية بمكانه من الله ، ومن عمه أبي طالب ، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء ، قال لهم : لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد ، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه ; فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا بدينهم اهـ .

فإن الله لما ذكر الذين آمنوا ، وصبروا على الأذى وعذر الذين اتقوا عذاب الفتنة بأن قالوا كلام الكفر بأفواههم ، ولكن قلوبهم مطمئنة بالإيمان ذكر فريقا آخر فازوا بفرار من الفتنة ; لئلا يتوهم متوهم أن بعدهم عن النبيء صلى الله عليه وسلم في تلك الشدة يوهن جماعة المسلمين فاستوفى ذكر فرق المسلمين كلها ، وقد أومأ إلى حظهم من الفضل بقوله : ( هاجروا من بعد ما فتنوا ) فسمى عملهم هجرة .

وهذا الاسم في مصطلح القرآن يدل على مفارقة الوطن لأجل المحافظة على الدين ، كما حكي عن إبراهيم عليه السلام وقال : إني مهاجر إلى ربي ، وقال في الأنصار يحبون من هاجر إليهم ، أي المؤمنين الذين فارقوا مكة .

وسمى ما لقوه من المشركين فتنة ، والفتنة : العذاب والأذى الشديد المتكرر الذي لا يترك لمن يقع به صبرا ولا رأيا ، قال تعالى يوم هم على [ ص: 300 ] النار يفتنون ذوقوا فتنتكم ، وقال إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ، وتقدم بيانها عند قوله تعالى والفتنة أشد من القتل في سورة البقرة ، أي فقد نالهم الأذى في الله .

والمجاهدة : المقاومة بالجهد ، أي الطاقة .

والمراد بالمجاهدة هنا دفاعهم المشركين عن أن يردوهم إلى الكفر .

وهاتان الآيتان مكيتان نازلتان قبل شرع الجهاد الذي هو بمعنى قتال الكفار لنصر الدين .

والصبر : الثبات على تحمل المكروه والمشاق ، وتقدم في قوله تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة في سورة البقرة .

وأكد الخبر بحرف التوكيد اللفظي ; لتحقيق الوعد ، والاهتمام يدفع النقيصة عنهم في الفضل .

ويدل على ذلك ما في صحيح البخاري : أن أسماء بنت عميس ، وهي ممن قدم من أرض الحبشة ، دخلت على حفصة فدخل عمر عليها فقال لها : سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله منكم ، فغضبت أسماء وقالت : كلا والله ، كنتم مع النبيء يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم ، وكنا في أرض البعداء البغضاء بالحبشة ، ونحن كنا نؤذى ونخاف ، وذلك في الله ورسوله ، وايم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله ، فلما جاء النبيء صلى الله عليه وسلم بيت حفصة قالت : أسماء : يا رسول الله إن عمر قال كذا وكذا ، قال : فما قلت له ؟ قالت : قلت له كذا وكذا ، قال ليس بأحق بي منكم ، وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان .

واللام في قوله للذين هاجروا متعلق بـ غفور مقدم عليه للاهتمام ، وأعيد إن ربك ثانيا لطول الفصل بين اسم ( إن ) وخبرها المقترن بلام الابتداء مع إفادة التأكيد اللفظي .

[ ص: 301 ] وتعريف المسند إليه الذي هو اسم ( إن ) بطريق الإضافة دون العلمية لما يومئ إليه إضافة لفظ ( رب ) إلى ضمير النبيء من كون المغفرة والرحمة لأصحابه كانت ; لأنهم أوذوا لأجل الله ، ولأجل النبيء صلى الله عليه وسلم فكان إسناد المغفرة إلى الله بعنوان كونه رب محمد صلى الله عليه وسلم حاصلا أسلوب يدل على الذات العلية ، وعلى الذات المحمدية .

وهذا من أدق لطائف القرآن في قرن اسم النبيء باسم الله بمناسبة هذا الإسناد بخصوصه .

وضمير ( من بعدها ) عائد إلى الهجرة المستفادة من هاجروا ، أو إلى المذكورات : من هجرة ، وفتنة ، وجهاد ، وصبر ، أو إلى الفتنة المأخوذة من ( فتنوا ) ، وكل تلك الاحتمالات تشير إلى أن المغفرة والرحمة لهم جزاء على بعض تلك الأفعال ، أو كلها .

وقرأ ابن عامر فتنوا بفتح الفاء والتاء على البناء للفاعل ، وهي لغة في افتتن ، بمعنى ( وقع ) في الفتنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية