الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون

استئناف جواب عن قولهم : فليأتنا بآية كما أرسل الأولون بإيقاظهم إلى أن الآية التي جاءتهم هي أعظم من الآيات التي أرسل بها [ ص: 22 ] الأولون ، وتجهيلا لألبابهم التي لم تدرك عظم الآية التي جاءتهم كما أنبأ بذلك موقع هذه الجملة في هذا المكان .

وفي ضمير ذلك تحقيق ؛ لكون القرآن حقا ، وتذكير بما يشتمل عليه من المنافع التي عموا عنها فيما حكي عنهم أول السورة بقوله تعالى : ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم كما أنبأ بذلك ظاهر معنى الآية .

ولقصد هذا الإيقاظ صدرت الجملة بما يفيد التحقيق من لام القسم وحرف التحقيق ، وجعل إنزال الكتاب إليهم كما اقتضته تعدية فعل " أنزلنا " بحرف " إلى " شأن تعدية فعل الإنزال أن يكون المجرور بـ " إلى " - هو المنزل إليه ، فجعل الإنزال إليهم لكونهم بمنزلة من أنزل إليه نظرا إلى أن الإنزال كان لأجلهم ودعوتهم . وذلك أبلغ من أن يقال : لقد أنزلنا لكم . وتنكير " كتابا " للتعظيم إيماء إلى أنه جمع خصلتين عظيمتين : كونه كتاب هدى ، وكونه آية ومعجزة للرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله أو مدانيه .

والذكر يطلق على التذكير بما فيه الصلاح ، ويطلق على السمعة والصيت كقوله : " ذكر رحمة ربك عبده زكرياء " . وقد أوثر هذا المصدر هنا وجعل معرفا بالإضافة إلى ضمير المخاطبين ليكون كلاما موجها ، فيصح قصد المعنيين معا من كلمة " الذكر " بأن مجيء القرآن مشتملا على أعظم الهدى ، هو تذكير لهم بما به نهاية إصلاحهم ، ومجيئه بلغتهم ، وفي قومهم ، وبواسطة واحد منهم ، سمعة عظيمة لهم ، كما قال تعالى : بلسان عربي مبين وقال : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم .

[ ص: 23 ] وقد فسر السلف هذه الآية بالمعنيين . وفي تفسير الطبري هنا قال جماعة : معنى " فيه ذكركم " أنه الشرف ، أي فيه شرفكم . وقال ابن عطية : يحتمل أن يريد : فيه شرفكم وذكركم آخر الدهر كما تذكر عظام الأمور . وقد فسر بمثل ذلك قوله تعالى : وإنه لذكر لك ولقومك .

وعلى المعنيين يكون لتفريع قوله تعالى : " أفلا تعقلون " أحسن موقع ؛ لأن الاستفهام الإنكاري لنفي عقلهم متجه على كلا المعنيين ، فإن من جاءه ما به هديه فلم يهتد ينكر عليه سوء عقله ، ومن جاءه ما به مجده وسمعته فلم يعبأ به ينكر عليه سوء قدره للأمور حق قدرها ، كما يكون الفضل في مثله مضاعفا . وأيضا فهو متفرع على الإقناع بإنزال القرآن آية تفوق الآيات التي سألوا مثلها ، وهو المفاد من الاستئناف ومن تأكيد الجملة بالقسم وحرف التحقيق ، قال تعالى : أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون في سورة العنكبوت ، وذلك لإعجازه اللفظي والمعنوي .

التالي السابق


الخدمات العلمية