الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون

جملة أم اتخذوا من دونه آلهة تأكيد لجملة أم اتخذوا آلهة من الأرض ، أكد ذلك الإضراب الانتقالي بمثله استعظاما [ ص: 47 ] لفظاعته وليبنى عليه استدلال آخر كما بني على نظيره السابق; فإن الأول بني عليه دليل استحالة من طريق العقل ، وهذا بني عليه دليل بطلان بشهادة الشرائع سابقها ولاحقها ، فلقن الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول : هاتوا برهانكم أي ، هاتوا دليلا على أن لله شركاء من شواهد الشرائع والرسل .

والبرهان : الحجة الواضحة . وتقدم في قوله تعالى : يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم في سورة النساء .

والإشارة في قوله تعالى : هذا ذكر من معي إلى مقدر في الذهن يفسره الخبر ، والمقصود من الإشارة تمييزه وإعلانه بحيث لا يستطيع المخاطب المغالطة فيه ولا في مضمونه ، كقوله تعالى : هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه في سورة " لقمان " ، أي أن كتب الذكر - أي الكتب الدينية - في متناول الناس ، فانظروا هل تجدون في أحد منها أن لله شركاء ، وأن الله أذن باتخاذهم آلهة . وإضافة " ذكر " إلى " من معي " من إضافة المصدر إلى مفعوله ، وهم المذكرون ، بفتح الكاف .

والمعية في قوله تعالى : " من معي " معية المتابعة ، أي من معي من المسلمين ، فماصدق " من " الموصولة الأمم ، أي هذا ذكر الأمة التي هي معي ، أي الذكر المنزل لأجلكم . فالإضافة من إضافة المصدر إلى المفعول كقوله تعالى : لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم . والمراد بقوله تعالى : هذا ذكر من معي القرآن ، وأما قوله تعالى : وذكر من قبلي فمعناه ذكر الأمم الذين هم قبلي يشمل جميع الكتب السالفة المعروفة : التوراة والزبور والإنجيل وكتاب لقمان . وهذا كقوله تعالى : شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط في آل عمران .

[ ص: 48 ] وأضرب عن الاستدلال بأنه استدلال مضيع فيهم بقوله تعالى : بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون ، أي لا ترج منهم اعترافا ببطلان شركهم من دليل العقل المتقدم ولا من دليل شهادة الشرائع المذكور ثانيا ، فإن أكثرهم لا يعلمون الحق ولا يكتسبون علمه .

والمراد بكونهم لا يعلمون الحق أنهم لا يتطلبون علمه كما دلت عليه قرينة التفريع عليه بقوله تعالى : فهم معرضون " ، أي معرضون عن النظر في الأدلة التي تدعوهم أنت إلى معرفتها والنظر فيها .

وإنما أسند هذا الحكم إلى أكثرهم لا لجميعهم ؛ تسجيلا عليهم بأن قليلا منهم يعلمون الحق ويجحدونه ، أو إيماء إلى أن قليلا منهم تهيأت نفوسهم لقبول الحق . وتلك هي الحالة التي تعرض للنفس عند هبوب نسمات التوفيق عليها مثل ما عرض لعمر بن الخطاب حين وجد اللوح عند أخته مكتوبا فيه سورة " طه " فأقبل على قراءاته بشراشره ، فما أتمهما حتى عزم على الإسلام .

التالي السابق


الخدمات العلمية