الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها .

انتقال من حكاية مطاعنهم في القرآن وبيان إبطالها إلى حكاية مطاعنهم في الرسول عليه الصلاة والسلام .

والضمير عائد إلى الذين كفروا ، فمدلول الصفة مراعى كما تقدم .

[ ص: 327 ] وقد أوردوا طعنهم في نبوءة النبيء صلى الله عليه وسلم بصيغة الاستفهام عن الحالة المختصة به إذ أوردوا اسم الاستفهام ولام الاختصاص ، والجملة الحالية التي مضمونها مثار الاستفهام .

والاستفهام تعجيبي مستعمل في لازمه وهو بطلان كونه رسولا بناء على أن التعجب من الدعوى يقتضي استحالتها أو بطلانها . وتركيب ( ما لهذا ) ونحوه يفيد الاستفهام عن أمر ثابت له ، فاسم الاستفهام مبتدأ و ( لهذا ) خبر عنه ، فمثار الاستفهام في هذه الآية هو ثبوت حال أكل الطعام والمشي في الأسواق للذي يدعي الرسالة من الله .

فجملة ( يأكل الطعام ) جملة حال . وقولهم : ( لهذا الرسول ) أجروا عليه وصف الرسالة مجاراة منهم لقوله وهم لا يؤمنون به ، ولكنهم بنوا عليه ليتأتى لهم التعجب ، والمراد منه الإحالة والإبطال .

والإشارة إلى حاضر في الذهن ، وقد بين الإشارة ما بعدها من اسم معرف بلام العهد وهو الرسول .

وكنوا بأكل الطعام والمشي في الأسواق عن مماثلة أحواله لأحوال الناس تذرعا منهم إلى إبطال كونه رسولا لزعمهم أن الرسول عن الله تكون أحواله غير مماثلة لأحوال الناس ، وخصوا أكل الطعام والمشي في الأسواق ؛ لأنهما من الأحوال المشاهدة المتكررة . ورد الله عليهم قولهم هذا بقوله : ( وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ) . ثم انتقلوا إلى اقتراح أشياء تؤيد رسالته فقالوا : ( لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ) . وخصوا من أحوال الرسول حال النذارة ؛ لأنها التي أنبتت حقدهم عليه .

و ( لولا ) حرف تحضيض مستعمل في التعجيز ، أي لو أنزل إليه ملك لاتبعناه .

وانتصب ( فيكون ) على جواب التحضيض .

و ( أو ) للتخيير في دلائل الرسالة في وهمهم .

[ ص: 328 ] ومعنى ( يلقى إليه كنز ) أي : ينزل إليه كنز من السماء ، إذ كان الغنى فتنة لقلوبهم . والإلقاء : الرمي ، وهو هنا مستعار للإعطاء من عند الله ؛ لأنهم يتخيلون الله تعالى في السماء .

والكنز تقدم في قوله تعالى : ( أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز ) في سورة هود . وجعلوا إعطاء جنة له علامة على النبوءة ؛ لأن وجود الجنة في مكة خارق للعادة .

وقرأ الجمهور ( يأكل منها ) بياء الغائب ، والضمير المستتر عائد إلى ( هذا الرسول ) .

وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف ( نأكل منها ) بنون الجماعة . والمعنى : ليتيقنوا أن ثمرها حقيقة لا سحر .

ذكر أصحاب السير أن هذه المقالة صدرت من كبراء المشركين وفي مجلس لهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبا سفيان بن حرب ، وأبا البختري ، والأسود بن عبد المطلب ، وزمعة بن الأسود ، والوليد بن المغيرة ، وأبا جهل بن هشام ، وأمية بن خلف ، وعبد الله بن أبي أمية ، والعاص بن وائل ، ونبيه بن الحجاج ، ومنبه بن الحجاج ، والنضر بن الحارث ، وأن هذه الأشياء التي ذكروها تداولها أهل المجلس ؛ إذ لم يعين أهل السير قائلها .

قال ابن عطية : وأشاعوا ذلك في الناس فنزلت هذه الآية في ذلك . وقد تقدم شيء من هذا في سورة الإسراء .

وكتبت لام ( ما لـ هذا ) منفصلة عن اسم الإشارة الذي بعدها في المصحف الإمام فاتبعته المصاحف ؛ لأن رسم المصحف سنة فيه ، كما كتب ( ما لـ هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ) في سورة الكهف ، وكما كتب ( مال الذين كفروا قبلك مهطعين ) في سورة سأل سائل ، كما كتب ( فما لـ هؤلاء القوم ) في سورة النساء . ولعل وجه هذا الانفصال أنه طريقة رسم قديم كانت الحروف تكتب منفصلا بعضها عن بعض ولا سيما حروف المعاني فعاملوا [ ص: 329 ] ما كان على حرف واحد معاملة ما كان على حرفين ، فبقيت على يد أحد كتاب المصحف أثارة من ذلك ، وأصل حروف الهجاء كلها الانفصال ، وكذلك هي في الخطوط القديمة للعرب وغيرهم . وكان وصل حروف الكلمة الواحدة تحسينا للرسم وتسهيلا لتبادر المعنى ، وأما ما كان من كلمتين فوصله اصطلاح . وأكثر ما وصلوا منه الكلمة الموضوعة على حرف واحد مثل حروف القسم أو كالواحد مثل ( أل ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية