الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين

ابتداء كلام للتنويه بشأن محمد - صلى الله عليه وسلم - وتثبيت فؤاده ووعده بحسن العاقبة في الدنيا والآخرة ، وإن إنكار أهل الضلال رسالته لا يضيره ؛ لأن الله أعلم بأنه على [ ص: 192 ] هدى وأنهم على ضلال بعد أن قدم لذلك من أحوال رسالة موسى عليه السلام ما فيه عبرة بالمقارنة بين حالي الرسولين وما لقياه من المعرضين .

وافتتاح الكلام بحرف التأكيد للاهتمام به .

وجيء بالمسند إليه اسم موصول دون اسمه تعالى العلم ؛ لما في الصلة من الإيماء إلى وجه بناء الخبر ، وأنه خبر الكرامة والتأييد ، أي أن الذي أعطاك القرآن ما كان إلا مقدرا نصرك وكرامتك ; لأن إعطاء القرآن شيء لا نظير له ، فهو دليل على كمال عناية الله بالمعطى . قال كعب بن زهير :


مهلا هداك الذي أعطاك نافلة الـ قرآن فيها مواعيظ وتفصـيل

وفيه إيماء إلى تعظيم شأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - .

ومعنى فرض عليك القرآن اختاره لك ، من قولهم : فرض له كذا ، إذا عين له فرضا ، أي نصيبا . ولما ضمن " فرض " معنى أنزل - لأن فرض القرآن هو إنزاله - عدي " فرض " بحرف " على " .

والرد : إرجاع شيء إلى حاله أو مكانه . والمعاد : اسم مكان العود ، أي الأول كما يقتضيه حرف الانتهاء . والتنكير في " معاد " للتعظيم كما يقتضيه مقام الوعد والبشارة ، وموقعهما بعد قوله : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، أي إلى معاد أي معاد .

والمعاد يجوز أن يكون مستعملا في معنى آخر أحوال الشيء وقراره الذي لا انتقال منه ؛ تشبيها بالمكان العائد إليه بعد أن صدر منه ، أو كناية عن الأخارة فيكون مرادا به الحياة الآخرة . قال ابن عطية : وقد اشتهر يوم القيامة بالمعاد ؛ لأنه معاد الكل اهـ . أي فأبشر بما تلقى في معادك من الكرامة التي لا تعادلها كرامة ، والتي لا تعطى لأحد غيرك . فتنكير معاد أفاد أنه عظيم الشأن ، وترتبه على الصلة أفاد أنه لا يعطى لغيره مثله كما أن القرآن لم يفرض على أحد مثله .

ويجوز أن يراد بالمعاد معناه المشهود القريب من الحقيقة . وهو ما يعود إليه المرء إن غاب عنه ، فيراد هنا بلده الذي كان به وهو مكة . وهذا الوجه يقتضي أنه كناية عن خروجه منه ثم عوده إليه ؛ لأن الرد يستلزم المفارقة . وإذ قد كانت السورة [ ص: 193 ] مكية ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة فالوعد بالرد كناية عن الخروج منه قبل أن يرد عليه . وقد كان النبيء - صلى الله عليه وسلم - أري في النوم أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل كما في حديث البخاري ، وكان قال له ورقة بن نوفل : يا ليتني أكون معك إذ يخرجك قومك ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ، فما كان ذلك كله ليغيب عن علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنه قد قيل : إن هذه الآية نزلت عليه وهو في الجحفة في طريقه إلى الهجرة كما تقدم في أول السورة ، فوعد بالرد عليها وهو دخوله إليها فاتحا لها ومتمكنا منها . فقد روي عن ابن عباس تفسير المعاد بذلك ، وكلا الوجهين يصح أن يكون مرادا على ما تقرر في المقدمة التاسعة .

ثم تكون جملة قل ربي أعلم من جاء بالهدى بالنسبة إلى الوجه الأول بمنزلة التفريع على جملة لرادك إلى معاد ، أي رادك إلى يوم المعاد ، فمظهر المهتدي والضالين ، فيكون علم الله بالمهتدي والضال مكنى به عن اتضاح الأمر بلا ريب ؛ لأن علم الله تعالى لا يعتريه تلبيس ، وتكون هذه الكناية تعريضا بالمشركين أنهم الضالون . وأن النبيء - صلى الله عليه وسلم - هو المهتدي .

ولهذه النكتة عبر عن جانب المهتدي بفعل من جاء ؛ للإشارة إلى أن المهتدي هو الذي جاء بهدي لم يكن معروفا من قبل كما يقتضيه : جاء بكذا ، وعبر عن جانب الضالين بالجملة الاسمية المقتضية ثبات الضلال المشعر بأن الضلال هو أمرهم القديم الراسخ فيهم مع ما أفاده حرف الظرفية من انغماسهم في الضلال وإحاطته بهم . ويكون المعنى حينئذ على حد قوله تعالى : وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين لظهور أن المبلغ لهذا الكلام لا يفرض في حقه أن يكون هو الشق الضال ، فيتعين أن الضال من خالفه .

وبالنسبة إلى الوجه الثاني تكون بمنزلة الموادعة والمتاركة وقطع المجادلة . فالمعنى : عد عن إثبات هداك وضلالهم ، وكلهم إلى يوم ردك إلى معادك ، يوم يتبين أن الله نصرك وخذلهم . وعلى المعنيين فجملة قل ربي أعلم مستأنفة استئنافا بيانيا عن جملة إن الذي فرض عليك القرآن جوابا لسؤال سائل يثيره أحد المعنيين .

[ ص: 194 ] وفي تقديم جملة إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد على جملة قل ربي أعلم من جاء بالهدى إعداد لصلاحية الجملة الثانية للمعنيين المذكورين . فهذا من الدلالة على معاني الكلام بمواقعه وترتيب نظامه ، وتقديم الجمل عن مواضع تأخيرها لتوفير المعاني .

وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك

عطف على جملة : إن الذي فرض عليك القرآن إلخ باعتبار ما تضمنته من الوعد بالثواب الجزيل أو بالنصر المبين ، أي كما حملك تبليغ القرآن فكان ذلك علامة على أنه أعد لك الجزاء بالنصر في الدنيا والآخرة - كذلك إعطاؤه إياك الكتاب عن غير ترقب منك ، بل بمحض رحمة ربك ، أي هو كذلك في أنه علامة لك على أن الله لا يترك نصرك على أعدائك ، فإنه ما اختارك لذلك إلا لأنه أعد لك نصرا مبينا وثوابا جزيلا .

وهذا أيضا من دلالة الجملة على معنى غير مصرح به ، بل على معنى تعريضي بدلالة موقع الجملة .

وإلقاء الكتاب إليه وحيه به إليه . أطلق عليه اسم الإلقاء على وجه الاستعارة كما تقدم في قوله تعالى : فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون وألقوا إلى الله يومئذ السلم في سورة النحل .

والاستثناء في إلا رحمة من ربك استثناء منقطع ؛ لأن النبيء - صلى الله عليه وسلم - لم يخامر نفسه رجاء أن يبعثه الله بكتاب من عنده بل كان ذلك مجرد رحمة من الله تعالى به واصطفاء له .

التالي السابق


الخدمات العلمية