الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين هذه الجملة وما ذكر بعدها من الجمل المحكية بأفعال القول بيان لجملة يرجع بعضهم إلى بعض القول ليكون البيان كالمبين بها لاستحضار حالة [ ص: 205 ] القول لأنها حالة غريبة لما فيها من جرأة المستضعفين على المستكبرين ومن تنبه هؤلاء من غفلتهم عما كان المستكبرون يغرونهم به حتى أوقعوهم في هذا المأزق والسين والتاء في استضعفوا للعد والحسبان ، أي الذين يعدهم الناس ضعفاء لا يؤبه بهم وإنما يعدهم الناس كذلك لأنهم كذلك ويعلم أنهم يستضعفون أنفسهم بالأولى لأنهم أعلم بما في أنفسهم .

والضعف هنا الضعف المجازي وهو حالة الاحتجاج في المهام إلى من يضطلع بشئونهم ويذب عنهم ويصرفهم كيف يشاء .

ومن مشمولاته الضعة والضراعة ولذلك قوبل بـ " الذين استكبروا " ، أي عدوا أنفسهم كبراء وهم ما عدوا أنفسهم كبراء إلا لما يقتضي استكبارهم لأنهم لو لم يكونوا كذلك لوصفوا بالغرور والإعجاب الكاذب . ولهذا عبر في جانب الذين استضعفوا بالفعل المبني للمجهول وفي جانب الذين استكبروا بالفعل المبني للمعلوم ، وقد تقدم في سورة هود .

و " لولا " حرف امتناع لوجود ، أي حرف يدل على امتناع جوابه أي انتفائه لأجل وجود شرطه فعلم أنها حرف شرط ولكنهم اختصروا العبارة ، ومعنى : لأجل وجود شرطه ، أي حصوله في الوجود ، وهو حرف من الحروف الملازمة الدخول على الجملة الاسمية فيلزم إيلاؤه اسما ومبتدأ . وقد كثر حذف خبر ذلك المبتدأ في الكلام غالبا بحيث يبقى من شرطها اسم واحد وذلك اختصار لأن حرف لولا يؤذن بتعليق حصول جوابه على وجود شرطه . فلما كان الاسم بعدها في معنى شيء موجود حذفوا الخبر اختصارا . ويعلم من المقام أن التعليق في الحقيقة على حالة خاصة من الأحوال التي يكون عليها الوجود مفهومة من السياق لأنه لا يكون الوجود المجرد لشيء سببا في وجود غيره وإنما يؤخذ أخص أحواله الملازمة لوجوده .

وهذا المعنى عبر عنه النحويون بالوجود المطلق وهي عبارة غير متقنة ومرادهم أعلق أحوال الوجود به ، وإلا فإن الوجود المطلق ، أي المجرد لا يصلح لأن يعلق عليه شرط .

[ ص: 206 ] وقد جاء في هذه الآية ربط التعليق بضمير الذين استكبروا فاقتضى أن جميع أحوال المستكبرين كانت تدندن حول منعهم من الإيماء فكان وجودهم لا أثر له إلا في ذلك المنع وهو ما دل عليه قولهم فيما بعد بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله من فرط إلحاحهم عليهم بذلك وتكريره في معظم الأوقات ، فكأنه استغرق وجودهم ، لأن الوجود كون في أزمنة فكان قولهم هنا لولا أنتم مبالغة في شدة حرصهم على كفرهم . وهذا وجه وجيه في الاعتبار البلاغي فمقتضى الحال من هذه الآية هو حذف المشبه .

واعلم أن المراد بقولهم : مؤمنين بالمعنى اللقبي الذي اشتهر به المسلمون فكذلك لا يقدر لـ " مؤمنين " متعلق .

التالي السابق


الخدمات العلمية