الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون قفوا على صريح كفرهم بالقرآن وغيره من الشرائع بكلام كنوا به عن إبطال حقيقة الإسلام بدليل سفسطائي فجعلوا كثرة أموالهم وأولادهم حجة على أنهم أهل حظ عند الله تعالى ، فضمير " وقالوا " عائد إلى الذين كفروا من قوله وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن الخ . وهذا من تمويه الحقائق بما يحف [ ص: 213 ] بها من العوارض فجعلوا ما حف بحالهم في كفرهم من وفرة المال والولد من حجة على أنهم مظنة العناية عند الله وأن ما هم عليه هو الحق . وهذا تعريض منهم بعكس حال المسلمين بأن حال ضعف المسلمين ، وقلة عددهم ، وشظف عيشهم حجة على أنهم غير محظوظين عند الله ولم يتفطنوا إلى أن أحوال الدنيا مسببة على أسباب دنيوية لا علاقة لها بأحوال الأولاد . وهذا المبدأ الوهمي السفسطائي خطير في العقائد الضالة التي كانت لأهل الجاهلية والمنتشرة عند غير المسلمين ولا يخلو المسلمون من قريب منها في تصرفاتهم في الدين ومرجعها إلى قياس الغائب على الشاهد وهو قياس يصادف الصواب تارة ويخطئه تارات .

ومن أكبر أخطاء المسلمين في هذا الباب خطأ اللجأ إلى القضاء والقدر في أعذارهم وخطأ التخلق بالتوكل في تقصيرهم وتكاسلهم .

فجملة وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا عطف على جملة وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن الخ . وقولهم وما نحن بمعذبين كالنتيجة لقولهم نحن أكثر أموالا وأولادا ، وإنما جيء فيه بحرف العطف لترجيح جانب الفائدة المستقلة على جانب الاستنساخ الذي يومئ إليه ما تقدمه وهو قولهم نحن أكثر أموالا وأولادا فحصل من هذا النظم استدلال لصحة دينهم ولإبطال ما جاء به الإسلام ثم الافتخار بذلك على المسلمين والضعة لجانب المسلمين بإشارة إلى قياس استثنائي على ملازمة موهومة ، وكأنهم استدلوا بانتفاء التعذيب على أنهم مقربون عند الله بناء على قياس مساواة مطوي فكأنهم حصروا وسائل القرب عند الله في وفرة الأموال والأولاد . ولولا هذا التأويل لخلا كلتا الجملتين عن أهم معنييهما وبه يكون موقع الجواب بـ قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر أشد اتصالا بالمعنى ، أي قل لهم : إن بسط الرزق وتقتيره شأن آخر من تصرفات الله المنوطة بما قدره في نظام هذا العالم ، أي فلا ملازمة بينه وبين الرشد والغي ، والهدى والضلال ، ولو تأملتم أسباب الرزق لرأيتموها لا تلاقي أسباب الغي والاهتداء ، فربما وسع الله الرزق على العاصي وضيقه على المطيع وربما عكس فلا يغرنهم هذا وذاك فإنكم لا تعلمون .

وهذا ما جعل قوله ولكن أكثر الناس لا يعلمون مصيبا المحز ، فأكثر الناس [ ص: 214 ] تلتبس عليهم الأمور فيخلطون بينها ولا يضعون في مواضعها زينها وشينها .

وقد أفاد هذا أن حالها غير دال على رضا الله عنهم ولا عدمه ، وهذا الإبطال هو ما يسمى في علم المناظرة نقضا إجماليا .

وبسط الرزق : تيسيره وتكثيره استعير له البسط وهو نشر الثوب ونحوه لأن المبسوط تكثر مساحة انتشاره .

وقدر الرزق : عسر التحصيل عليه وقلة حاصله ، استعير له القدر ، أي التقدير وهو التحديد لأن الشيء القليل يسهل عده وحسابه ولذلك قيل في ضده يرزق من يشاء بغير حساب ، ومفعول يقدر محذوف دل عليه مفعول يبسط ، وتقدم نظيره في سورة الرعد .

ومفعول يعلمون محذوف دل عليه الكلام ، أي لا يعلمون أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، باعتبار عموم من يشاء من كونه صالحا أو طالحا ، ومن انتفاء عملهم بذلك أنهم توهموا بسط الرزق علامة على القرب عند الله ، وضده علامة على ضد ذلك . وبهذا أخطأ قول أحمد بن الراوندي :


كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا     هذا الذي ترك الأوهام حائرة
وصير العالم النحرير زنديقا

فلو كان عالما نحريرا لما تحير فهمه ، وما تزندق من ضيق عطن فكره .

التالي السابق


الخدمات العلمية