الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصينه في إمام مبين لما اقتضى القصر في قوله إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب نفي أن يتعلق الإنذار بالذين لم يتبعوا الذكر ولم يخشوا الرحمن ، وكان في ذلك كناية تعريضية بأن الذين لم ينتفعوا بالإنذار بمنزلة الأموات لعدم انتفاعهم بما ينفع كل عاقل ، كما قال تعالى لتنذر من كان حيا وكما قال إنك لا تسمع الموتى استطرد عقب ذلك بالتخلص إلى إثبات البعث فإن التوفيق الذي حف بمن اتبع الذكر وخشي الرحمن هو كإحياء الميت ؛ لأن حالة الشرك حالة ضلال يشبه الموت ، والإخراج منه كإحياء الميت ، فهذه الآية اشتملت بصريحها على علم بتحقيق البعث واشتملت بتعريضها على رمز واستعارتين ضمنيتين : استعارة الموتى للمشركين ، واستعارة الأحياء للإنقاذ من الشرك ، والقرينة هي الانتقال من كلام إلى كلام لما يومئ إليه الانتقال من سبق الحضور في المخيلة فيشمل المتكلم مما كان يتكلم في شأنه إلى الكلام فيما خطر له . وهذه الدلالات من مستتبعات [ ص: 355 ] المقام وليست من لوازم معنى التركيب . وهذا من أدق التخلص بحرف " إن " لأن المناسبة بين المنتقل منه والمنتقل إليه تحتاج إلى فطنة ، وهذا مقام خطاب الذكي المذكور في مقدمة علم المعاني .

فيكون موقع جملة إنا نحيي الموتى استئنافا ابتدائيا لقصد إنذار الذين لم يتبعوا الذكر ، ولم يخشوا الرحمن ، وهم الذين اقتضاهم جانب النفي في صيغة القصر .

ويجوز أن يكون الإحياء مستعارا للإنقاذ من الشرك ، والموتى : استعارة لأهل الشرك ، فإحياء الموتى توفيق من آمن من الناس إلى الإيمان كما قال تعالى أفمن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات الآية .

فتكون الجملة امتنانا على المؤمنين بتيسير الإيمان لهم ، قال تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام وموقع الجملة لقوله فبشره بمغفرة وأجر كريم .

والمراد بكتابة ما قدموا الكناية عن الوعد بالثواب على أعمالهم الصالحة والثواب على آثارهم .

وهذا الاعتبار يناسب الاستئناف الابتدائي ليكون الانتقال بابتداء كلام منبها السامع إلى ما اعتبره المتكلم في مطاوي كلامه .

والتأكيد بحرف " إن " منظور فيه إلى المعنى الصريح كما هو الشأن ، ونحن ضمير فصل لا للتقوية وهو زيادة تأكيد . والمعنى : نحييهم للجزاء ، فلذلك عطف ونكتب ما قدموا ، أي نحصي لهم أعمالهم من خير وشر قدموها في الدنيا لنجازيهم .

وعطف ذلك إدماج للإنذار والتهديد بأنهم محاسبون على أعمالهم ومجازون عليها .

والكناية : كناية عن الإحصاء وعدم إفلات شيء من أعمالهم أو إغفاله . وهي ما يعبر عنه بصحائف الأعمال التي يسجلها الكرام الكاتبون .

[ ص: 356 ] فالمراد بـ " ما قدموا " ما عملوا من الأعمال قبل الموت ، شبهت أعمالهم في الحياة الدنيا بأشياء يقدمونها إلى الدار الآخرة كما يقدم المسافر ثقله وأحماله .

وأما الآثار فهي آثار الأعمال وليست عين الأعمال ، بقرينة مقابلته بـ " ما قدموا " مثل ما يتركون من خير أو شر بين الناس وفي النفوس .

والمقصود بذلك ما علموه موافقا للتكاليف الشرعية أو مخالفا لها " وآثارهم " كذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ، لا ينقص ذلك من أعمالهم شيئا .

فالآثار مسببات أسباب عملوا بها . وليس المراد كتابة كل ما عملوه ؛ لأن ذلك لا تحصل منه فائدة دينية يترتب عليها الجزاء . فهذا وعد ووعيد ، كل يأخذ بحظه منه .

وقد ورد عن جابر أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - بلغه أن بني سلمة أرادوا أن يتحولوا من منازلهم في أقصى المدينة إلى قرب المسجد وقالوا : البقاع خالية ، فقال لهم النبيء - صلى الله عليه وسلم - يا بني سلمة دياركم ، تكتب آثاركم " مرتين رواه مسلم . ويعني آثار أرجلهم في المشي إلى صلاة الجماعة .

وفي رواية الترمذي عن أبي سعيد زاد : أنه قرأ عليهم ونكتب ما قدموا وآثارهم فجعل الآثار عاما للحسية والمعنوية ، وهذا يلاقي الوجه الثاني في موقع جملة إنا نحن نحيي الموتى ، وهو جار على ما أسسناه في المقدمة التاسعة . وتوهم راوي الحديث عن الترمذي أن هذه الآية نزلت في ذلك ، وسياق الآية يخالفه ومكيتها تنافيه .

والإحصاء : حقيقته العد والحساب وهو هنا كناية عن الإحاطة والضبط وعدم تخلف شيء عن الذكر والتعيين ؛ لأن الإحصاء والحساب يستلزم أن لا يفوت واحد من المحسوبات .

والإمام : ما يؤتم به في الاقتداء على حسب ما يدل عليه ، قال النابغة :

[ ص: 357 ] 206 بنوا مجد الحياة على إمام أطلق الإمام على الكتاب ؛ لأن الكتاب يتبع ما فيه من الأخبار والشروط ، قال الحارث بن حلزة :


حذر الجور والتطاخي وهل ينـ قض ما فـي الـمـهـارق الأهـواء

والمراد ( كل شيء ) بحسب الظاهر هو كل شيء من أعمال الناس كما دل عليه السياق ، فذكر " كل شيء " لإفادة الإحاطة والعموم لما قدموا وآثارهم من كبيرة وصغيرة . فكلمة ( كل ) نص على العموم من اسم الموصول ومن الجمع المعرف بالإضافة ، فتكون جملة " وكل شيء أحصيناه في إمام مبين " مؤكدة لجملة ونكتب ما قدموا وآثارهم ، ومبينة لمجملها ، ويكون عطفها دون فصلها مراعى فيه ما اشتملت عليه من زيادة الفائدة .

ويجوز أن يكون المراد بـ ( كل شيء ) كل ما يوجد من الذوات والأعمال ، ويكون الإحصاء إحصاء علم ، أي : تعلق العلم بالمعلومات عند حدوثها ، ويكون الإمام المبين علم الله تعالى . والظرفية ظرفية إحاطة ، أي : عدم تفلت شيء عن علمه كما لا ينفلت المظروف عن الظرف .

وجعل علم الله إماما لأنه تجري على وفقه تعلقات الإرادة الربانية والقدرة فتكون جملة وكل شيء أحصيناه على هذا تذييلا مفيدا أن الكتابة لا تختص بأعمال الناس الجارية على وفق التكاليف أو ضدها بل تعم جميع الكائنات . وإذ قد كان الشيء يرادف الموجود جاز أن يراد بـ " كل شيء " الموجود بالفعل ، أو ما قبل الإيجاد وهو الممكن ، فيكون إحصاؤه هو العلم بأنه يكون أو لا يكون ومقادير كونه وأحواله ، كقوله تعالى وأحصى كل شيء عددا .

التالي السابق


الخدمات العلمية