الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون .

لما كان أكثر ما تقدم من السورة مشعرا بالاختلاف بين المشركين والمؤمنين ، وبأن المشركين مصممون على باطلهم على ما غمرهم من حجج الحق دون إغناء الآيات والتدبر عنهم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عقب ذلك بأن يقول هذا [ ص: 31 ] القول تنفيسا عنه من كدر الأسى على قومه ، وإعذارا لهم بالنذارة ، وإشعارا لهم بأن الحق في جانبهم مضاع وأن الأجدر بالرسول صلى الله عليه وسلم متاركتهم وأن يفوض الحكم في خلافهم إلى الله .

وفي هذا التفويض إشارة إلى أن الذي فوض أمره إلى الله هو الواثق بحقية دينه المطمئن بأن التحكيم يظهر حقه وباطل خصمه .

وابتدئ خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم ربه بالنداء لأن المقام مقام توجيه وتحاكم .

وإجراء الوصفين على اسم الجلالة لما فيهما من المناسبة بخضوع الخلق كلهم لحكمه وشمول علمه لدخائلهم من محق ومبطل .

والفاطر : الخالق ، وفاطر السماوات والأرض : فاطر لما تحتوي عليه .

ووصف فاطر السماوات والأرض مشعر بصفة القدرة ، وتقديمه قبل وصف العلم لأن شعور الناس بقدرته سابق على شعورهم بعلمه ، ولأن القدرة أشد مناسبة لطلب الحكم لأن الحكم إلزام وقهر فهو من آثار القدرة مباشرة .

والغيب : ما خفي وغاب عن علم الناس ، والشهادة : ما يعلمه الناس مما يدخل تحت الإحساس الذي هو أصل العلوم .

والعدول عن الإضمار إلى الاسم الظاهر في قوله ( بين عبادك ) دون أن يقول : بيننا ، لما في ( عبادك ) من العموم لأنه جمع مضاف فيشمل الحكم بينهم في قضيتهم هذه والحكم بين كل مختلفين لأن التعميم أنسب بالدعاء والمباهلة .

وجملة ( أنت تحكم بين عبادك ) خبر مستعمل في الدعاء . والمعنى : احكم بيننا . وفي تلقين هذا الدعاء للنبيء صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أنه الفاعل الحق .

وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله ( أنت تحكم ) لإفادة الاختصاص ، أي أنت لا غيرك .

وإذ لم يكن في الفريقين من يعتقد أن الله يحكم بين الناس في مثل هذا الاختلاف فيكون الرد عليه بمفاد القصر ، تعين أن القصر مستعمل كناية تلويحية [ ص: 32 ] عن شدة شكيمتهم في العناد وعدم الإنصاف والانصياع إلى قواطع الحجج ، بحيث إن من يتطلب حاكما فيهم لا يجد حاكما فيهم إلا الله تعالى . وهذا أيضا يومئ إلى العذر للرسول صلى الله عليه وسلم في قيامه بأقصى ما كلف به لأن هذا القول إنما يصدر عمن بذل وسعه فيما وجب عليه ، فلما لقنه ربه أن يقوله كان ذلك في معنى : أنك أبلغت وأديت الرسالة فلم يبق إلا ما يدخل تحت قدرة الله تعالى التي لا يعجزها الألداء أمثال قومك ، وفيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وفيه وعيد للمعاندين .

والحكم يصدق بحكم الآخرة وهو المحقق الذي لا يخلف ، ويشمل حكم الدنيا بنصر المحق على المبطل إذا شاء الله أن يعجل بعض حكمه بأن يعجل لهم العذاب في الدنيا .

والإتيان بفعل الكون صلة ل ( ما ) الموصولة ليدل على تحقق الاختلاف ، وكون خبر ( كان ) مضارعا تعريض بأنه اختلاف متجدد إذ لا طماعية في ارعواء المشركين عن باطلهم .

وتقديم ( فيه ) على ( يختلفون ) للرعاية على الفاصلة مع الاهتمام بالأمر المختلف فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية