الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون .

يجوز أن يكون اسم الجلالة بدلا من ربكم في ( وقال ربكم ) أتبع ربكم بالاسم العلم ليقضى بذلك حقان : حق استحقاقه أن يطاع بمقتضى الربوبية والعبودية ، وحق استحقاقه الطاعة لصفات كماله التي يجمعها اسم الذات . ولذلك لم يؤت مع وصف الرب المتقدم بشيء من ذكر نعمه ولا كمالاته اجتزاء بمقتضى حق الربوبية ، وذكر مع الاسم العلم بعض إنعامه وإفضاله ثم وصف الاسم بالموصول وصلته إشارة إلى بعض صفاته ، وإيماء إلى وجه الأمر بعبادته ، وتكون الجملة استئنافا بيانيا ناشئا عن تقوية الأمر بدعائه .

[ ص: 184 ] ويجوز أن يكون اسم الجلالة مبتدأ والموصول صفة له ويكون الخبر قوله ذلكم الله ربكم ويكون جملة إن الله لذو فضل معترضة ، أو أن يكون اسم الجلالة مبتدأ والموصول خبرا .

واعتبار الجملة مستأنفة أحسن من اعتبار اسم الجلالة بدلا لأنه أنسب بالتوقيف على سوء شكرهم ، وبمقام تعداد الدلائل وأسعد بقوله الله الذي جعل لكم الأرض قرارا ، فتكون الجملة واقعة موقع التعليل لجملة إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ، أي تسببوا لأنفسهم بذلك العقاب ؛ لأنهم كفروا نعمة الله إذ جعل لهم الليل والنهار .

وعلى هذه الاعتبارات كلها فقد سجلت هذه الآية على الناس تقسيمهم إلى : شاكر نعمة ، وكفورها ، كما سجلت عليهم الآية السابقة تقسيمهم إلى : مؤمن بوحدانية الله ، وكافر بها .

وهذه الآية للتذكير بنعمة الله تعالى على الخلق كما اقتضاه لام التعليل في قوله لكم واقتضاه التذييل بقوله إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون .

وأدمج في التذكير بالنعمة استدلال على انفراده تعالى بالتصرف بالخلق ، والتدبير الذي هو ملازم حقيقة الإلهية .

وابتدئ الاستدلال بدلائل الأكوان العلوية وآثارها الواصلة إلى الأكوان السفلية ، وهي مظهر النعمة بالليل والنهار فهما تكوينان عظيمان دالان على عظيم قدرة مكونهما ومنظمهما وجاعلهما متعاقبين ، فنيطت بهما أكثر مصالح هذا العالم ومصالح أهله ، فمن مصالح العالم حصول التعادل بين الضياء والظلمة ، والحرارة والبرودة لتكون الأرض لائقة بمصالح من عليها فتنبت الكلأ وتنضج الثمار ، ومن مصالح سكان العالم سكون الإنسان والحيوان في الليل لاسترداد النشاط العصبي الذي يعييه عمل الحواس والجسد في النهار ، فيعود النشاط إلى المجموع العصبي في الجسد كله وإلى الحواس ، ولولا ظلمة الليل لكان النوم غير [ ص: 185 ] كامل فكان عود النشاط بطيئا وواهنا ولعاد على القوة العصبية بالانحطاط والاضمحلال في أقرب وقت فلم يتمتع الإنسان بعمر طويل .

ومنها انتشار الناس والحيوان في النهار وتبين الذوات بالضياء ، وبذلك تتم المساعي للناس في أعمالهم التي بها انتظام أمر المجتمع من المدن والبوادي ، والحضر والسفر ، فإن الإنسان مدني بالطبع ، وكادح للعمل والاكتساب ، فحاجته للضياء ضرورية ولولا الضياء لكانت تصرفات الناس مضطربة مختبطة .

وللتنويه بشأن إبصار الناس في الضياء وكثرة الفوائد الحاصلة لهم من ذلك أسند الإبصار إلى النهار على طريقة المجاز العقلي لقوة الملابسة بين الأفعال وزمانها ، فأسند إبصار الناس إلى نفس النهار لأنه سبب بعضه وسبب كمال بعض آخر .

فأما نعمة السكون في الليل فهي نعمة واحدة هي رجوع النشاط .

وفي ذكر الليل تذكير بآية عظيمة من المخلوقات وهي الشمس التي ينشأ الليل من احتجاب أشعتها عن نصف الكرة الأرضية وينشأ النهار من انتشار شعاعها على النصف المقابل من الكرة الأرضية ، ولكن لما كان المقصد الأول من هذه الآية الامتنان ذكر الليل والنهار دون الشمس ، وقد ذكرت الشمس في آيات أخرى كان الغرض الأهم منها الدلالة على عظيم القدرة والوحدانية كقوله والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم .

ودلت مقابلة تعليل إيجاد الليل بعلة سكون الناس فيه ، بإسناد الإبصار إلى ذات النهار على طريقة المجاز العقلي وإنما المبصرون الناس في النهار ، على احتباك إذ يفهم من كليهما أن الليل ساكن أيضا ، وأن النهار خلق ليبصر الناس فيه إذ المنة بهما سواء ، فهذا من بديع الإيجاز مع ما فيه من تفنن أسلوبي الحقيقة والمجاز العقلي . ولم يعكس فيقل : جعل لكم الليل ساكنا والنهار لتبصروا فيه ، لئلا تفوت صراحة المراد من السكون كيلا يتوهم أن سكون الليل هو شدة الظلام فيه كما يقال : ليل ساج ، لقلة الأصوات فيه .

[ ص: 186 ] وتقدم الكلام على الليل والنهار في سورة البقرة عند قوله تعالى إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ، وفي مواضع أخرى .

وجملة إن الله لذو فضل على الناس اعتراض هو كالتذليل لجملة الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه لأن الفضل يشمل جعل الليل والنهار وغير ذلك من النعم ، ولأن الناس يعم المخاطبين بقوله ( جعل لكم ) وغيرهم من الناس .

وتنكير فضل للتعظيم لأن نعم الله تعالى عظيمة جليلة ولذلك قال لذو فضل ولم يقل : لمتفضل ، ولا لمفضل ، فعدل إلى إضافة ذو إلى فضل لتأتي التنكير المشعر بالتعظيم .

وعدل عن نحو : له فضل ، إلى لذو فضل لما يدل عليه ذو من شرف ما يضاف هو إليه .

والاستدراك بـ لكن ناشئ عن لازم ذو فضل على الناس لأن الشأن أن يشكر الناس ربهم على فضله فكان أكثرهم كافرا بنعمه ، وأي كفر للنعمة أعظم من أن يتركوا عبادة خالقهم المتفضل عليهم ويعبدوا ما لا يملك لهم نفعا ولا ضرا .

وخرج بـ أكثر الناس الأقل وهم المؤمنون فإنهم أقل ولو أعجبك كثرة الخبيث .

والعدول عن ضمير الناس في قوله ولكن أكثر الناس لا يشكرون إلى الاسم الظاهر ليتكرر لفظ الناس عند ذكر عدم الشكر كما ذكر عند التفضل عليهم فيسجل عليهم الكفران بوجه أصرح .

وقد علمت مما تقدم وجه اختلاف المنفيات في قوله ولكن أكثر الناس لا يعلمون وقوله ولكن أكثر الناس لا يؤمنون وقوله ولكن أكثر الناس لا يشكرون ، فقد أتبع كل غرض أريد إثباته بما يناسب حال منكريه .

التالي السابق


الخدمات العلمية