الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون .

قوله : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إفضاء إلى التشريع بعد أن قدم أمامه من الموعظة ما هيأ النفوس إليه ، فإن كان قوله : وأحل الله البيع وحرم الربا من كلام الذين قالوا إنما البيع مثل الربا فظاهر ، وإن كان من كلام الله تعالى فهو تشريع وقع في سياق الرد ، فلم يكتف بتشريع غير مقصود ولذا احتيج إلى هذا التشريع الصريح المقصود ، وما تقدم كله وصف لحال أهل الجاهلية ، وما بقي منه في صدر الإسلام قبل التحريم .

وأمروا بتقوى الله قبل الأمر بترك الربا لأن تقوى الله هي أصل الامتثال والاجتناب ، ولأن ترك الربا من جملتها ، فهو كالأمر بطريق برهاني .

ومعنى وذروا ما بقي من الربا الآية اتركوا ما بقي في ذمم الذين عاملتموهم بالربا ، فهذا مقابل قوله فله ما سلف فكان الذي سلف قبضه قبل نزول الآية معفوا عنه وما لم يقبض مأمورا بتركه .

[ ص: 94 ] قيل : نزلت هذه الآية خطابا لثقيف - أهل الطائف - إذ دخلوا في الإسلام بعد فتح مكة وبعد حصار الطائف على صلح وقع بينهم وبين عتاب بن أسيد - الذي أولاه النبيء - صلى الله عليه وسلم - مكة بعد الفتح - بسبب أنهم كانت لهم معاملات بالربا مع قريش ، فاشترطت ثقيف قبل النزول على الإسلام أن كل ربا لهم على الناس يأخذونه ، وكل ربا عليهم فهو موضوع ، وقبل منه رسول الله شرطهم ، ثم أنزل الله تعالى هذه الآية خطابا لهم ، وكانوا حديثي عهد بإسلام ، فقالوا : لا يدي لنا بحرب الله ورسوله .

فقوله : إن كنتم مؤمنين معناه إن كنتم مؤمنين حقا ، فلا ينافي قوله : يا أيها الذين آمنوا إذ معناه : يا أيها الذين دخلوا في الإيمان ، واندفعت إشكالات عرضت .

وقوله : فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله يعني إن تمسكتم بالشرط فقد انتقض الصلح بيننا ، فاعلموا أن الحرب عادت جذعة ، فهذا كقوله : " وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء " وتنكير " حرب " لقصد تعظيم أمرها ، ولأجل هذا المقصد عدل عن إضافة الحرب إلى الله وجيء عوضا عنها بمن ، ونسبت إلى الله ، لأنها بإذنه على سبيل مجاز الإسناد ، وإلى رسوله لأنه المبلغ والمباشر ، وهذا هو الظاهر ، فإذا صح ما ذكر في سبب نزولها فهو من تجويز الاجتهاد للنبيء - صلى الله عليه وسلم - في الأحكام ، إذ قبل من ثقيف النزول على اقتضاء ما لهم من الربا عند أهل مكة ، وذلك قبل أن ينزل قوله تعالى : وذروا ما بقي من الربا فيحتمل أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - رأى الصلح مع ثقيف على دخولهم في الإسلام مع تمكينهم مما لهم قبل قريش من أموال الربا الثابتة في ذممهم قبل التحريم مصلحة ، إذ الشأن أن ما سبق التشريع لا ينقض كتقرير أنكحة المشركين ، فلم يقره الله على ذلك وأمر بالانكفاف عن قبض مال الربا بعد التحريم ولو كان العقد قبل التحريم ، ولذلك جعلهم على خيرة من أمرهم في الصلح الذي عقدوه .

[ ص: 95 ] ودلت الآية على أن مجرد العقد الفاسد لا يوجب فوات التدارك إلا بعد القبض ، ولذلك جاء قبلها " فله ما سلف " وجاء هنا وذروا ما بقي من الربا إلى قوله : وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم .

وهذه الآية أصل عظيم في البيوع الفاسدة تقتضي نقضها ، وانتقال الضمان بالقبض ، والفوات بانتقال الملك ، والرجوع بها إلى رءوس الأموال أو إلى القيم إن فاتت ، لأن القيمة بدل من رأس المال .

ورءوس الأموال : أصولها ، فهو من إطلاق الرأس على الأصل ، وفي الحديث رأس الأمر الإسلام .

ومعنى : لا تظلمون ولا تظلمون لا تأخذون مال الغير ولا يأخذ غيركم أموالكم .

وقرأ الجمهور ( فأذنوا بحرب ) - بهمزة وصل وفتح الذال - أمرا من : أذن . وقرأه حمزة وأبو بكر وخلف ( فآذنوا ) - بهمزة قطع بعدها ألف وبذال مكسورة - أمرا من : آذن بكذا : إذا أعلم به ، أي : فآذنوا أنفسكم ومن حولكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية