الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب .

استئناف كلام ناشئ عن حكاية ما دعا به المؤمنون : من دوام الهداية ، وسؤال الرحمة ، وانتظار الفوز يوم القيامة ، بذكر حال الكافرين في ذلك اليوم ، على عادة القرآن في إرداف البشارة بالنذارة . وتعقيب دعاء المؤمنين ، بذكر حال المشركين ، [ ص: 172 ] إيماء إلى أن دعوتهم استجيبت . والمراد بـ " الذين كفروا " : المشركون ، وهذا وصف غالب عليهم في اصطلاح القرآن . وقيل : الذين كفروا بنبوءة محمد - صلى الله عليه وسلم - أريد هنا قريظة والنضير وأهل نجران ويرجح هذا بأنهم ذكروا بحال فرعون دون حال عاد وثمود ، فإن اليهود والنصارى أعلق بأخبار فرعون . كما أن العرب أعلق بأخبار عاد وثمود ، وأن الرد على النصارى من أهم أغراض هذه السورة . ويجوز أن يكون المراد جميع الكافرين : من المشركين ، وأهل الكتابين ، ويكون التذكير بفرعون لأن وعيد اليهود في هذه الآية أهم .

ومعنى " تغني " تجزي وتكفي وتدفع ، وهو فعل قاصر يتعدى إلى المفعول بـ " عن " نحو ما أغنى عني ماليه .

ولدلالة هذا الفعل على الإجزاء والدفع ، كان مؤذنا بأن هنالك شيئا يدفع ضره ، وتكفى كلفته ، فلذلك قد يذكرون مع هذا الفعل متعلقا ثانيا ويعدون الفعل إليه بحرف " من " كما في هذه الآية ، فتكون " من " للبدل والعوض على ما ذهب إليه في الكشاف ، وجعل ابن عطية " من " للابتداء .

وقوله من الله أي من أمر يضاف إلى الله ; لأن تعليق هذا الفعل تعليقا ثانيا ، باسم ذات لا يقصد منه إلا أخص حال اشتهرت به ، أو في الغرض المسوق له الكلام فيقدر معنى اسم مضاف إلى اسم الجلالة . والتقدير هنا من رحمة الله ، أو من طاعته ، إذا كانت " من " للبدل وكذا قدره في الكشاف ، ونظره بقوله تعالى : وإن الظن لا يغني من الحق شيئا . وعلى جعل " من " للابتداء كما قال ابن عطية تقدر من غضب الله ، أو من عذابه ، أي غناء مبتدئا من ذلك ، على حد قولهم : نجاه من كذا أي فصله منه ، ولا يلزم أن تكون " من " مع هذا الفعل إذا عدي بـ " عن " مماثلة لـ " من " الواقعة بعد هذا الفعل الذي لم يعد بـ " عن " لإمكان اختلاف معنى التعلق باختلاف مساق الكلام . والغالب أن يأتوا بعد فعل أغنى بلفظ " شيء " مع ذكر المتعلقين كما في الآية ، وبدون ذكر متعلقين ، كما في قول أبي سفيان ، يوم أسلم : لقد علمت أن لو كان معه إله غيره لقد أغنى عني شيئا .

[ ص: 173 ] وانتصب قوله شيئا على النيابة عن المفعول المطلق أي شيئا من الغناء . وتنكيره للتحقير أي غناء ضعيفا ، بله الغناء لهم ، ولا يجوز أن يكون مفعولا به لعدم استقامة معنى الفعل في التعدي .

وقد ظهر بهذا كيفية تصرف هذا الفعل التصرف العجيب في كلامهم ، وانفتح لك ما انغلق من عبارة الكشاف وما دونها في معنى هذا التركيب .

وقد مر الكلام على وقوع لفظ شيء عند قوله : ولنبلونكم بشيء من الخوف . وإنما خص الأموال والأولاد من بين أعلاق الذين كفروا ; لأن الغناء يكون بالفداء بالمال ، كدفع الديات والغرامات ، ويكون بالنصر والقتال ، وأولى من يدافع عن الرجل ، من عشيرته - أبناؤه ، وعن القبيلة أبناؤها ، قال قيس بن الخطيم :


ثأرت عديا والخطيم ولم أضع ولاية أشياخ جعلت إزاءهـا

والأموال المكاسب التي تقتات وتدخر ويتعاوض بها ، وهي جمع مال ، وغلب اسم المال في كلام جل العرب على الإبل قال زهير :


صحيحات مال     طالعات بمخرم

وغلب في كلام أهل الزرع والحرث على الجنات والحوائط وفي الحديث كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا وكان أحب أمواله إليه بئرحاء ، ويطلق المال غالبا على الدراهم والدنانير كما في قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - للعباس : أين المال الذي عند أم الفضل .

والظاهر أن هذا وعيد بعذاب الدنيا ; لأنه شبه بأنه كدأب آل فرعون إلى قوله : فأخذهم الله بذنوبهم وشأن المشبه به أن يكون معلوما ; ولأنه عطف عليه عذاب الآخرة في قوله : وأولئك هم وقود النار .

وجيء بالإشارة في قوله : " وأولئك " لاستحضارهم كأنهم بحيث يشار إليهم ، وللتنبيه على أنهم أحرياء بما سيأتي من الخبر وهو قوله : هم وقود النار . وعطفت هذه الجملة ، ولم تفصل ; لأن المراد من التي قبلها وعيد في الدنيا وهذه في وعيد الآخرة بقرينة قوله في الآية التي بعد هذه : ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد .

[ ص: 174 ] والوقود بفتح الواو ما يوقد به كالوضوء ، وقد تقدم نظيره في قوله : التي وقودها الناس والحجارة في سورة البقرة .

وقوله : كدأب آل فرعون موقع كاف التشبيه موقع خبر لمبتدأ محذوف يدل عليه المشبه به ، والتقدير : دأبهم في ذلك كدأب آل فرعون ، أي عادتهم وشأنهم كشأن آل فرعون .

والدأب : أصله الكدح في العمل وتكريره ، وكأن أصل فعله متعد ، ولذلك جاء مصدره على فعل ، ثم أطلق على العادة لأنها تأتي من كثرة العمل ، فصار حقيقة شائعة . قال النابغة :


كدأبك في قوم     أراك اصطنعتهم

أي عادتك ، ثم استعمل بمعنى الشأن كقول امرئ القيس :


كدأبك من أم الحويرث قبلها

وهو المراد هنا في قوله : كدأب آل فرعون ، والمعنى : شأنهم في ذلك كشأن آل فرعون ; إذ ليس في ذلك عادة متكررة ، وقد ضرب الله لهم هذا المثل عبرة وموعظة ; لأنهم إذا استقروا الأمم التي أصابها العذاب ، وجدوا جميعهم قد تماثلوا في الكفر : بالله ، وبرسله ، وبآياته ، وكفى بهذا الاستقراء موعظة لأمثال مشركي العرب ، وقد تعين أن يكون المشبه به هو وعيد الاستئصال والعذاب في الدنيا ; إذ الأصل أن حال المشبه أظهر من حال المشبه به عند السامع .

وعليه فالأخذ في قوله : فأخذهم الله بذنوبهم هو أخذ الانتقام في الدنيا كقوله : أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا .

وأريد بآل فرعون فرعون وآله ; لأن الآل يطلق على أشد الناس اختصاصا بالمضاف إليه ، والاختصاص هنا اختصاص في المتابعة والتواطؤ على الكفر ، كقوله : أدخلوا آل فرعون أشد العذاب فلذكر الآل هنا من الخصوصية ما ليس لذكر القوم ; إذ قوم الرجل قد يخالفونه ، فلا يدل الحكم المتعلق بهم على أنه مساو لهم في [ ص: 175 ] الحكم ، قال تعالى : ألا بعدا لعاد قوم هود في كثير من الآيات نظائرها ، وقال : أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون .

وقوله : " كذبوا " بيان لدأبهم ، استئناف بياني . وتخصيص آل فرعون بالذكر - من بين بقية الأمم - لأن هلكهم معلوم عند أهل الكتاب ، بخلاف هلك عاد وثمود فهو عند العرب أشهر ; ولأن تحدي موسى إياهم كان بآيات عظيمة فما أغنتهم شيئا تجاه ضلالهم ; ولأنهم كانوا أقرب الأمم عهدا بزمان النبيء - صلى الله عليه وسلم - فهو كقول شعيب : وما قوم لوط منكم ببعيد وكقول الله تعالى للمشركين : وإنها لبسبيل مقيم وقوله : وإنهما لبإمام مبين وقوله : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون .

التالي السابق


الخدمات العلمية