الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا .

يجوز أن تجعل جملة هو الذي أخرج الذين كفروا إلى آخرها استئنافا ابتدائيا لقصد إجراء هذا التمجيد على اسم الجلالة لما يتضمنه من باهر تقديره ، ولما يؤذن به ذلك من التعريض بوجوب شكره على ذلك الإخراج العجيب .

ويجوز أن تجعل علة لما تضمنه الخبر عن تسبيح ما في السماوات وما في الأرض من التذكير للمؤمنين والتعريض بأهل الكتاب والمنافقين الذين هم فريقان مما في الأرض فإن القصة التي تضمنتها فاتحة السورة من أهم أحوالهما .

ويجوز أن تجعل مبينة لجملة وهو العزيز الحكيم لأن هذا التسخير العظيم من آثار عزه وحكمته .

وعلى كل الوجوه فهو تذكير بنعمة الله على المسلمين وإيماء إلى أن يشكروا الله على ذلك وتمهيد للمقصود من السورة وهو قسمة أموال بني النضير .

وتعريف جزأي الجملة بالضمير والموصول يفيد قصر صفة إخراج الذين كفروا [ ص: 66 ] من ديارهم عليه تعالى وهو قصر ادعائي لعدم الاعتداد بسعي المؤمنين في ذلك الإخراج ومعالجتهم بعض أسبابه كتخريب ديار بني النضير .

ولذلك فجملة ما ظننتم أن يخرجوا تتنزل منزلة التعليل لجملة القصر .

وجملة وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم عطف على العلة ، أي وهم ظنوا أهل المسلمين لا يغلبونهم . وإنما لم يقل : وظنوا أن لا يخرجوا . مع أن الكلام على خروجهم من قوله تعالى هو الذي أخرج الذين كفروا فعدل عنه إلى وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم أي مانعتهم من إخراجهم استغناء عن ذكر المظنون بذكر علة الظن . والتقدير : وظنوا أن لا يخرجوا لأنهم تمنعهم حصونهم ، أي ظنوا ظنا قويا معتمدين على حصونهم .

والمراد بـ الذين كفروا من أهل الكتاب بنو النضير ( بوزن أمير ) وهم قبيلة من اليهود استوطنوا بلاد العرب هم وبنو عمهم قريظة ، ويهود خيبر ، وكلهم من ذرية هارون عليه السلام وكان يقال لبني النضير وبني قريظة : الكاهنان لأن كل فريق منهما من ذرية هارون وهو كاهن الملة الإسرائيلية . والكهانة : حفظ أمور الديانة بيده ويد أعقابه .

وقصة استيطانهم بلاد العرب أن موسى عليه السلام كان أرسل طائفة من أسلافهم لقتال العماليق المجاورين للشام وأرض العرب فقصروا في قتالهم وتوفي موسى قريبا من ذلك . فلما علموا بوفاة موسى رجعوا على أعقابهم إلى ديار إسرائيل في أريحا فقال لهم قومهم : أنتم عصيتم أمر موسى فلا تدخلوا بلادنا ، فخرجوا إلى جزيرة العرب وأقاموا لأنفسهم قرى حول يثرب ( المدينة ) وبنوا لأنفسهم حصونا وقرية سموها الزهرة . وكانت حصونهم خمسة سيأتي ذكر أسمائها في آخر تفسير الآية ، وصاروا أهل زرع وأموال . وكان فيهم أهل الثراء مثل السموأل بن عاديا ، وكعب بن الأشرف ، وابن أبي الحقيق ، وكان بينهم وبين الأوس والخزرج حلف ومعاملة ، فكان من بطون أولئك اليهود بنو النضير وقريظة وخيبر .

ووسموا بـ الذين كفروا لأنهم كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - تسجيلا عليهم بهذا الوصف الذميم وقد وصفوا بـ الذين كفروا في قوله تعالى ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين [ ص: 67 ] إلى قوله عذاب مهين في سورة البقرة .

وعليه فحرف من في قوله من أهل الكتاب بيانية لأن المراد بأهل الكتاب هنا خصوص اليهود أي الذين كفروا برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وهم أهل الكتاب وأراد بهم اليهود ، فوصفوا بـ من أهل الكتاب لئلا يظن أن المراد بـ الذين كفروا المشركون بمكة أو بقية المشركين بالمدينة فيظن أن الكلام وعيد .

وتفصيل القصة التي أشارت إليها الآية على ما ذكر جمهور أهل التفسير . أن بني النضير لما هاجر المسلمون إلى المدينة جاءوا فصالحوا النبيء - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يكونوا عليه ولا له ، ويقال : إن مصالحتهم كانت عقب وقعة بدر لما غلب المسلمون المشركين لأنهم توسموا أن لا تهزم لهم راية ، فلما غلب المسلمون يوم أحد نكثوا عهدهم وراموا مصالحة المشركين بمكة ، إذ كانوا قد قعدوا عن نصرتهم يوم بدر كدأب اليهود في موالاة القوي فخرج كعب بن الأشرف وهو سيد بني النضير في أربعين راكبا فحالفوا المشركين عند الكعبة على أن يكونوا عونا لهم على مقاتلة المسلمين ، فلما أوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك أمر محمد بن مسلمة أن يقتل كعب بن الأشرف فقتله غيلة في حصنه في قصة مذكورة في كتب السنة والسير .

وذكر ابن إسحاق سببا آخر وهو أنه لما انقضت وقعة بئر معونة في صفر سنة أربع كان عمرو بن أمية الضمري أسيرا عند المشركين فأطلقه عامر بن الطفيل . فلما كان راجعا إلى المدينة أقبل رجلان من بني عامر وكان لقومهما عقد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزلا مع عمرو بن أمية ، فلما ناما عدا عليهما فقتلهما وهو يحسب أنه يثأر بهما من بني عامر الذين قتلوا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببئر معونة ، ولما قدم عمرو بن أمية أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما فعل فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لقد قتلت قتيلين ولآدينهما ، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين إذ كان بين بني النضير وبين بني عامر حلف ، وأضمر بنو النضير الغدر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأطلعه الله عليه فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بالتهيؤ لحربهم .

[ ص: 68 ] ثم أمر النبيء - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بالسير إليهم في ربيع الأول في سنة أربع من الهجرة فسار إليهم هو والمسلمون وأمرهم بأن يخرجوا من قريتهم فامتنعوا وتنادوا إلى الحرب ودس إليهم عبد الله بن أبي ابن سلول أن لا يخرجوا من قريتهم وقال : إن قاتلكم المسلمون فنحن معكم ولننصرنكم وإن أخرجتم لنخرجن معكم فدربوا على الأزقة - أي سدوا منافذ بعضها لبعض ليكون كل درب منها صالحا للمدافعة - وحصنوها ، ووعدهم أن معه ألفين من قومه وغيرهم ، وأن معهم قريظة وحلفاءهم من غطفان من العرب فحاصرهم النبيء - صلى الله عليه وسلم - وانتظروا عبد الله بن أبي ابن سلول وقريظة وغطفان أن يقدموا إليهم ليردوا عنهم جيش المسلمين فلما رأوا أنهم لم ينجدوهم قذف الله في قلوبهم الرعب فطلبوا من النبيء - صلى الله عليه وسلم - الصلح فأبى إلا الجلاء عن ديارهم وتشارطوا على أن يخرجوا ويحمل كل ثلاثة أبيات منهم حمل بعير مما شاءوا من متاعهم ، فجعلوا يخربون بيوتهم ليحملوا معهم ما ينتفعون به من الخشب والأبواب .

فخرجوا فمنهم من لحق بخيبر ، وقليل منهم لحقوا ببلاد الشام في مدن أريحا وأذرعات من أرض الشام وخرج قليل منهم إلى الحيرة .

واللام في قوله لأول الحشر لام التوقيت وهي التي تدخل على أول الزمان المجعول ظرفا لعمل مثل قوله تعالى يقول يا ليتني قدمت لحياتي أي من وقت حياتي . وقولهم : كتب ليوم كذا . وهي بمعنى عند . فالمعنى أنه أخرجهم عند مبدأ الحشر المقدر لهم ، وهذا إيماء إلى أن الله قدر أن يخرجوا من جميع ديارهم في بلاد العرب . وهذا التقدير أمر به النبيء - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي . فالتعريف في الحشر تعريف العهد .

والحشر : جمع ناس في مكان قال تعالى وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم .

والمراد به هنا : حشر يهود جزيرة العرب إلى أرض غيرها ، أي جمعهم للخروج ، وهو بهذا المعنى يرادف الجلاء إذا كان الجلاء لجماعة عظيمة تجمع من متفرق ديار البلاد .

[ ص: 69 ] وليس المراد به : حشر يوم القيامة إذ لا مناسبة له هنا ولا يلائم ذكر لفظ أول لأن أول كل شيء إنما يكون متحد النوع مع ما أضيف هو إليه .

وعن الحسن : أنه حمل الآية على حشر القيامة وركبوا على ذلك أوهاما في أن حشر القيامة يكون بأرض الشام وقد سبق أن ابن عباس احترز من هذا حين سمى هذه السورة سورة بني النضير وفي جعل هذا الإخراج وقتا لأول الحشر إيذان بأن حشرهم يتعاقب حتى يكمل إخراج جميع اليهود وذلك ما أوصى به النبيء - صلى الله عليه وسلم - قبيل وفاته إذ قال لا يبقى دينان في جزيرة العرب . وقد أنفذه عمر بن الخطاب حين أجلى اليهود من جميع بلاد العرب .

وقيل : وصف الحشر بالأول لأنه أول جلاء أصاب بني النضير ، فإن اليهود أجلوا من فلسطين مرتين مرة في زمن 2 بختنصر ومرة في زمن طيطس سلطان الروم وسلم بنو النضير ومن معهم من الجلاء لأنهم كانوا في بلاد العرب . فكان أول جلاء أصابهم جلاء بني النضير .

التالي السابق


الخدمات العلمية