الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فلما رأوها قالوا إنا لضالون بل نحن محرومون قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون أي استفاقوا من غفلتهم ورجعوا إلى أنفسهم باللائمة على بطرهم وإهمال شكر النعمة التي سيقت إليهم ، وعلموا أنهم أخذوا بسبب ذلك ، قال تعالى وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون . ومن حكم الشيخ ابن عطاء الله الإسكندري " من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها ، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها " .

وأفادت ( لما ) اقتران جوابها بشرطها بالفور والبداهة . والمقصود من هذا التعريض للمشركين بأن يكون حالهم في تدارك أمرهم وسرعة إنابتهم كحال أصحاب هذه الجنة إذ بادروا بالندم وسألوا الله عوض خير .

وإسناد هذه المقالة إلى ضمير أصحاب الجنة يقتضي أنهم قالوه جميعا ، أي اتفقوا على إدراك سبب ما أصابهم .

ومعنى إنا لضالون أنهم علموا أنهم كانوا في ضلال أي عن طريق الشكر ، أي كانوا غير مهتدين وهو كناية عن كون ما أصابهم عقابا على إهمال الشكر فالضلال مجاز .

[ ص: 86 ] وأكدوا الكلام لتنزيل أنفسهم منزلة من يشك في أنهم ضالون طريق الخير لقرب عهدهم بالغفلة عن ضلالهم ، ففيه إيذان بالتحسر والتندم .

و بل نحن محرومون إضراب للانتقال إلى ما هو أهم بالنظر لحال تبيينهم إذ بيتوا حرمان المساكين من فضول ثمرتهم فكانوا هم المحرومين من جميع الثمار ، فالحرمان الأعظم قد اختص بهم إذ ليس حرمان المساكين بشيء في جانب حرمانهم .

والكلام يفيد ذلك إما بطريق تقديم المسند إليه بأن أتي به ضميرا بارزا مع أن مقتضى الظاهر أن يكون ضميرا مستترا في اسم المفعول مقدرا مؤخرا عنه ؛ لأنه لا يتصور إلا بعد سماع متحمله . فلما أبرز الضمير وقدم كان تقديمه مؤذنا بمعنى الاختصاص ، أي القصر ، وهو قصر إضافي . وهذا من مستتبعات التراكيب والتعويل على القرائن .

ويحتمل أن يكون الضلال حقيقيا ، أي ضلال طريق الجنة ، أي قالوا إنا أخطأنا الطريق في السير إلى جنتنا ؛ لأنهم توهموا أنهم شاهدوا جنة أخرى غير جنتهم التي عهدوها ، قالوا ذلك تحيرا في أمرهم .

ويكون الإضراب إبطاليا ، أي أبطلوا أن يكونوا ضلوا طريق جنتهم ، وأثبتوا أنهم محرومون من خير جنتهم فيكون المعنى أنها هي جنتهم ولكنها هلكت فحرموا خيراتها بأن أتلفها الله .

و ( أوسطهم ) أفضلهم وأقربهم إلى الخير وهو أحد الإخوة الثلاثة . والوسط : يطلق على الأخير الأفضل ، قال تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا ، وقال حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ويقال هو من سطة قومه ، وأعطني من سطة مالك .

وحكي هذا القول بدون عاطف ؛ لأنه قول في مجرى المحاورة جوابا عن قولهم بل نحن محرومون قاله لهم على وجه توقيفهم على تصويب رأيه وخطل رأيهم . والاستفهام تقريري و ( لولا ) حرف تحضيض . والمراد ب ( تسبحون ) تنزيه الله عن أن يعصى أمره في شأن إعطاء زكاة ثمارهم .

وكان جوابهم يتضمن إقرارا بأنه وعظهم فعصوه ودلوا على ذلك بالتسبيح حين [ ص: 87 ] ندمهم على عدم الأخذ بنصيحته فقالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين أرادوا إجابة تقريره بإقرار بتسبيح الله عن أن يعصى أمره في إعطاء حق المساكين فإن من أصول التوبة تدارك ما يمكن تداركه ، واعترافهم بظلم المساكين من أصول التوبة لأنه خبر مستعمل في التندم ، والتسبيح مقدمة الاستغفار من الذنب قال تعالى فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا .

وجملة إنا كنا ظالمين قرار بالذنب ، والتأكيد لتحقيق الإقرار والاهتمام به . ويفيد حرف ( إن ) مع ذلك تعليلا للتسبيح الذي قبله . وحذف مفعول ( ظالمين ) ليعم ظلمهم أنفسهم بما جروه على أنفسهم من سلب النعمة ، وظلم المساكين بمنعهم من حقهم في المال .

وجرت حكاية جوابهم على طريقة المحاورة فلم تعطف وهي الطريقة التي نبهنا عليها عند قوله تعالى قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها في سورة البقرة .

ولما استقر حالهم على المشاركة في منع المساكين حقهم أخذ بعضهم يلوم بعضا على ما فرط من فعلهم ، كل يلوم غيره بما كان قد تلبس به في هذا الشأن من ابتكار فكرة منع المساكين ما كان حقا لهم من حياة الأب ، ومن الممالاة على ذلك ، ومن الاقتناع بتصميم البقية ، ومن تنفيذ جميعهم ذلك العزم الذميم ، فصور قوله فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون هذه الحالة والتقاذف الواقع بينهم بهذا الإجمال البالغ غاية الإيجاز ، ألا ترى أن إقبال بعضهم على بعض يصور حالة تشبه المهاجمة والتقريع ، وأن صيغة التلاوم مع حذف متعلق التلاوم تصور في ذهن السامع صورا من لوم بعضهم على بعض .

وقد تلقى كل واحد منهم لوم غيره عليه بإحقاق نفسه بالملامة وإشراك بقيتهم فيها فقال كل واحد منهم يا ويلنا إنا كنا طاغين إلى آخره ، فأسند هذا القول إلى جميعهم لذلك .

فجملة قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين إلى آخرها يجوز أن تكون مبينة لجملة ( يتلاومون ) أي يلوم بعضهم بعضا بهذا الكلام فتكون خبرا مستعملا في التقريع على طريقة التعريض بغيره والإقرار على نفسه ، مع التحسر والتندم بما أفاده ( يا ويلنا ) . وذلك كلام جامع للملامة كلها ولم تعطف الجملة لأنها مبينة .

[ ص: 88 ] ويجوز أن تكون جواب بعضهم بعضا عن لومه غيره ، فكما أجمعوا على لوم بعضهم بعضا كذلك أجمعوا على إجابة بعضهم بعضا عن ذلك الملام فقال كل ملوم للائمه ( يا ويلنا إنا كنا طاغين ) إلخ جوابا بتقرير ملامه والاعتراف بالذنب ورجاء العفو من الله وتعويضهم عن جنتهم خيرا منها إذ قبل توبتهم وجعل لهم ثواب الدنيا مع ثواب الآخرة ، فيكون ترك العطف ؛ لأن فعل القول جرى في طريقة المحاورة .

والإقبال : حقيقة المجيء إلى الغير من جهة وجهه وهو مشتق من القبل وهو ما يبدو من الإنسان من جهة وجهه ضد الإدبار ، وهو هنا تمثيل لحال العناية باللوم .

واللوم : إنكار متوسط على فعل أو قول وهو دون التوبيخ وفوق العتاب ، وتقدم عند قوله تعالى فإنهم غير ملومين في سورة المؤمنين .

والطغيان : تجاوز الحد المتعارف في الكبر والتعاظم والمعنى : إنا كنا طاغين على حدود الله .

ثم استأنفوا عن ندامتهم وتوبتهم رجاءهم من الله أن يتوب عليهم فلا يؤاخذهم بذنبهم في الآخرة ولا في الدنيا فيمحو عقابه في الدنيا محوا كاملا بأن يعوضهم عن جنتهم التي قدر إتلافها بجنة أخرى خيرا منها .

وجملة إنا إلى ربنا راغبون بدل من جملة الرجاء ، أي هو رجاء مشتمل على رغبة إليه بالقبول والاستجابة .

والتأكيد في ( إنا إلى ربنا راغبون ) للاهتمام بهذا التوجه .

والمقصود من الإطناب في قولهم بعد حلول العذاب بهم تلقين الذين ضرب لهم هذا المثل بأن في مكنتهم الإنابة إلى الله بنبذ الكفران لنعمته إذ أشركوا به من لا إنعام لهم عليه .

روي عن ابن مسعود أنه قال : بلغني أنهم أخلصوا وعرف الله منهم الصدق فأبدلهم جنة يقال لها : الحيوان ، ذات عنب يحمل العنقود الواحد منه على بغل .

[ ص: 89 ] وعن أبي خالد اليماني أنه قال : دخلت تلك الجنة فرأيت كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم .

وقرأ الجمهور : أن يبدلنا بسكون الموحدة وتخفيف الدال . وقرأه نافع وأبو عمرو وأبو جعفر ( يبدلنا ) بفتح الموحدة وتشديد الدال وهما بمعنى واحد .

قال ابن الفرس في أحكام القرآن : استدل بهذه الآية أبو محمد عبد الوهاب على أن من تعمد إلى نقص النصاب قبل الحول قصدا للفرار من الزكاة أو خالط غيره ، أو فارقه بعد الخلطة فإن ذلك لا يسقط الزكاة عنه خلافا للشافعي .

ووجه الاستدلال بالآية أن أصحاب الجنة قصدوا بجذ الثمار إسقاط حق المساكين فعاقبهم الله بإتلاف ثمارهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية