الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا ) هذا استئناف بياني ناشئ عن الاستئناف الذي قبله من قوله ( إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا ) إلخ . فإن من عرف ما أعد للكفور من الجزاء يتطلع إلى معرفة ما أعد للشاكر من الثواب .

وأخر تفصيله عن تفصيل جزاء الكفور مع أن شاكرا مذكور قبل كفورا ، على طريقة اللف والنشر المعكوس ليتسع المجال لإطناب الكلام على صفة جزاء الشاكرين وما فيه من الخير والكرامة ، تقريبا للموصوف من المشاهدة المحسوسة .

وتأكيد الخبر عن جزاء الشاكرين لدفع إنكار المشركين أن يكون المؤمنون خيرا منهم في عالم الخلود ، ولإفادة الاهتمام بهذه البشارة بالنسبة إلى المؤمنين .

والأبرار : هم الشاكرون ، عبر عنهم بالأبرار زيادة في الثناء عليهم .

والأبرار : جمع بر بفتح الباء ، وجمع بار أيضا مثل شاهد وأشهاد ، والبار أو البر المكثر من البر بكسر الباء وهو فعل الخير ، ولذلك كان البر من أوصاف الله تعالى قال تعالى ( إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم ) .

[ ص: 380 ] ووصف بر أقوى من بار في الاتصاف بالبر ، ولذلك يقال : الله بر ، ولم يقل : الله بار .

ويجمع بر على بررة . ووقع في مفردات الراغب : أن بررة أبلغ من أبرار .

وابتدئ في وصف نعيمهم بنعيم لذة الشرب من خمر الجنة لما للذة الخمر من الاشتهار بين الناس ، وكانوا يتنافسون في تحصيلها .

والكأس : بالهمز الإناء المجعول للخمر فلا يسمى كأسا إلا إذا كان فيه خمر ، وقد تسمى الخمر كأسا على وجه المجاز المرسل بهذا الاعتبار كما سيجيء قريبا قوله تعالى ( ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا ) فيجوز أن يراد هنا آنية الخمر فتكون ( من ) للابتداء وإفراد كأس للنوعية ، ويجوز أن تراد الخمر فتكون ( من ) للتبعيض .

وعلى التقديرين فكأس مراد به الجنس وتنوينه لتعظيمه في نوعه .

والمزاج : بكسر الميم ما يمزج به غيره ، أي يخلط وكانوا يمزجون الخمر بالماء إذا كانت الخمر معتقة شديدة ليخففوا من حدتها وقد ورد ذكر مزج الخمر في أشعار العرب كثيرا .

وضمير مزاجها عائد إلى كأس .

فإذا أريد بالكأس إناء الخمر فالإضافة لأدنى ملابسة ، أي مزاج ما فيها ، وإذا أريدت الخمر فالإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله .

والكافور : زيت يستخرج من شجرة تشبه الدفلى تنبت في بلاد الصين وجاوة يتكون فيها إذا طالت مدتها نحوا من مائتي سنة فيغلى حطبها ويستخرج منه زيت يسمى الكافور . وهو ثخن قد يتصلب فيصير كالزبد وإذا يقع حطب شجرة الكافور في الماء صار نبيذا يتخمر فيصير مسكرا .

والكافور أبيض اللون ذكي الرائحة منعش .

فقيل إن المزاج هنا مراد به الماء والإخبار عنه بأنه كافور من قبيل التشبيه البليغ ، أي في اللون أو ذكاء الرائحة ، ولعل الذي دعا بعض المفسرين إلى هذا أن [ ص: 381 ] المتعارف بين الناس في طيب الخمر أن يوضع المسك في جوانب الباطية قال النابغة :


وتسقى إذا ما شئت غير مصـرد بزوراء في حافاتها المسك كارع

ويختم على آنية الخمر بخاتم من مسك كما في قوله تعالى في صفة أهل الجنة ( يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك ) . وكانوا يجعلون الفلفل في الخمر لحسن رائحته ولذعة حرارته لذعة لذيذة في اللسان ، كما قال امرؤ القيس :


صبحن سلافا من رحيق مفلفل

ويحتمل أن يكونوا يمزجون الخمر بماء فيه الكافور أو بزيته فيكون المزاج في الآية على حقيقته مما تمزج به الخمر ولعل ذلك كان من شأن أهل الترف لأن الكافور ثمين وهو معدود في العطور .

ومن المفسرين من قال : إن كافور اسم عين في الجنة لأجل قوله عقبه ( عينا يشرب بها عباد الله ) وستعلم حق المراد منه .

وإقحام فعل ( كان ) في جملة الصفة بقوله ( كان مزاجها كافورا ) لإفادة أن ذلك مزاجها لا يفارقها إذ كان معتاد الناس في الدنيا ندرة ذلك المزاج لغلاء ثمنه وقلة وجدانه .

وانتصب ( عينا ) عن البدل من ( كافورا ) أي ذلك الكافور تجري به عين في الجنة من ماء محلول فيه أو من زيته مثل قوله ( وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ) . وعدي فعل ( يشرب ) بالباء وهي باء الإلصاق لأن الكافور يمزج به شرابهم . فالتقدير : ( عينا ) يشرب عباد الله خمرهم بها ، أي مصحوبا بمائها ، وذهب الأصمعي إلى أن الباء في قوله تعالى ( يشرب بها عباد الله ) بمعنى ( من ) التبعيضية ووافقه الفارسي وابن قتيبة وابن مالك ، وعد في كتبه ذلك من معاني الباء ونسب إلى الكوفيين .

و ( عباد الله ) مراد بهم : الأبرار . وهو إظهار في مقام الإضمار للتنويه بهم بإضافة عبوديتهم إلى الله تعالى إضافة تشريف .

[ ص: 382 ] والفجير : فتح الأرض عن الماء أي استنباط الماء الغزير وأطلق هنا على الاستقاء منها بلا حد ولا نضوب فكان كل واحد يفجر لنفسه ينبوعا وهذا من الاستعارة .

وأكد فعل ( يفجرونها تفجيرا ) ترشيحا للاستعارة .

التالي السابق


الخدمات العلمية