الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ويل يومئذ للمكذبين الذين يكذبون بيوم الدين وما يكذب به إلا كل معتد أثيم إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين .

جملة ويل يومئذ للمكذبين يجوز أن تكون مبينة لمضمون جملة ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم فإن قوله : يومئذ يفيد تنوينه جملة محذوفة جعل التنوين عوضا عنها تقديرها : يوم إذ يقوم الناس لرب العالمين ويل فيه للمكذبين .

ويجوز أن تكون ابتدائية وبين المكذبين بيوم الدين والمطففين عموم وخصوص وجهي ، فمن المكذبين من هم مطففون ، ومن المطففين مسلمون وأهل كتاب لا يكذبون بيوم الدين ، فتكون هذه الجملة إدماجا لتهديد المشركين المكذبين بيوم الدين وإن لم يكونوا من المطففين .

وقد ذكر المكذبون مجملا في قوله : للمكذبين ثم أعيد مفصلا ببيان متعلق التكذيب ، وهو بيوم الدين لزيادة تقرير تكذيبهم أذهان السامعين منهم ومن غيرهم من المسلمين وأهل الكتاب ، فالصفة هنا للتهديد وتحذير المطففين المسلمين من أن يستخفوا بالتطفيف فيكونوا بمنزلة المكذبين بالجزاء عليه .

ومعنى التكذيب بـ يوم الدين التكذيب بوقوعه .

فالتكذيب بيوم الجزاء هو منشأ الإقدام على السيئات والجرائم ، ولذلك أعقبه بقوله : وما يكذب به إلا كل معتد أثيم إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين [ ص: 197 ] أي أن تكذيبهم به جهل بحكمة الله تعالى في خلق الله وتكليفهم إذ الحكمة من خلق الناس تقتضي تحسين أعمالهم وحفظ نظامهم . فلذلك جاءتهم الشرائع آمرة بالصلاح وناهية عن الفساد . ورتب لهم الجزاء على أعمالهم الصالحة بالثواب والكرامة ، وعلى أعمالهم السيئة بالعذاب والإهانة . كل على حسب عمله : فلو أهمل الخالق تقويم مخلوقاته وأهمل جزاء الصالحين والمفسدين ، لم يكن ذلك من حكمة الخلق قال تعالى : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق .

وقد ذكر للمكذبين بيوم الدين ثلاثة أوصاف وهي : معتد ، أثيم ، يقول إن الآيات أساطير الأولين .

والاعتداء : الظلم ، والمعتدي : المشرك والكافر بما جاءه من الشرائع لأنهم اعتدوا على الله بالإشراك ، وعلى رسله بالتكذيب ، واعتدوا على دلائل الحق فلم ينظروا فيها أو لم يعملوا بها .

والأثيم : مبالغة في الآثم ، أي : كثير الإثم .

وصيغة القصر من النفي والاستثناء تفيد قصر صفة التكذيب بيوم الدين على المعتدين الآثمين الزاعمين القرآن أساطير الأولين .

فهو قصر صفة على موصوف وهو قصر حقيقي ; لأن يوم الدين لا يكذب به إلا غير المتدينين المشركون والوثنيون وأضرابهم ممن جمع الأوصاف الثلاثة ، وأعظمها التكذيب بالقرآن فإن أهل الكتاب والصابئة لا يكذبون بيوم الدين ، وكثير من أهل الشرك لا يكذبون بيوم الدين مثل أصحاب ديانة القبط .

فالذين يكذبون بيوم الدين هم مشركو العرب ومن شابههم مثل الدهريين ، فإنهم تحققت فيهم الصفتان الأولى والثانية وهي الاعتداء والإثم وهو ظاهر ، وأما زعم القرآن أساطير الأولين فهو مقالة المشركين من العرب وهم المقصود ابتداء وأما غيرهم ممن لم يؤثر عنهم هذا القول فهم متهيئون ; لأن يقولوه ، أو يقولوا ما يساويه ، أو يئول إليه ; لأن من لم يعرض عليه القرآن منهم لو عرض عليه القرآن لكذب به [ ص: 198 ] تكذيبا يساوي اعتقاد أنه من وضع البشر ، فهؤلاء وإن لم يقولوا القرآن أساطير الأولين فظنهم في القرآن يساوي ظن المشركين فنزلوا منزلة من يقوله .

ولك أن تجعل القصر ادعائيا ولا تلتفت إلى تنزيل من لم يقل ذلك في القرآن ، ومعنى الادعاء أن من لم يؤثر عنهم القول في القرآن بأنه أساطير الأولين قد جعل تكذيبهم بيوم الدين كلا تكذيب مبالغة في إبطال تكذيب المشركين بيوم الدين .

وجملة إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين صفة لمعتد أو حال منه .

والآيات هنا القرآن وأجزاؤه لأنها التي تتلى وتقرأ .

والأساطير : جمع أسطورة وهي القصة ، والأكثر أن يراد القصة المخترعة التي لم تقع وكان المشركون ينظرون قصص القرآن بقصة رستم ، وإسفنديار ، عند الفرس ، ولعل الكلمة معربة عن الرومية ، وتقدم الكلام عليه عند قوله تعالى : يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين في سورة الأنعام .

والمراد بالأولين الأمم السابقة ; لأن الأول يطلق على السابق على وجه التشبيه بأنه أول بالنسبة إلى ثان بعده وإن كان هو قد سبقته أجيال ، وقد كان المشركون يصفون القرآن بذلك لما سمعوا فيه من القصص التي سيقت إليهم مساق الموعظة والاعتبار ، فحسبوها من قصص الأسمار . واقتصروا على ذلك دون ما في أكثر القرآن من الحقائق العالية والحكمة . بهتانا منهم .

وممن كانوا يقولون ذلك النضر بن الحارث ، وكان قد كتب قصة رستم وقصة إسفنديار وجدها في الحيرة ، فكان يحدث بها في مكة ويقول : أنا أحسن حديثا من محمد ، فإنما يحدثكم بأساطير الأولين .

وليس المراد في الآية خصوصه ; لأن كلمة كل معتد ظاهر في عدم التخصيص .

التالي السابق


الخدمات العلمية