الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيا .

بعد أن ثبت الله رسوله صلى الله عليه وسلم تكفل له ما أزال فرقه من أعباء الرسالة وما اطمأنت به نفسه من دفع ما خافه من ضعف عن أدائه الرسالة على وجهها وتكفل له دفع نسيان ما يوحى إليه إلا ما كان إنساؤه مرادا لله تعالى . ووعده بأنه وفقه وهيأه لذلك ويسره عليه ، إذ كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في مبدأ عهده بالرسالة إذ كانت هذه السورة ثامنة السور لا يعلم ما سيتعهد الله به فيخشى أن يقصر عن مراد الله فيلحقه غضب منه أو ملام . أعقب ذلك بأن أمره بالتذكير ، أي : التبليغ ، أي : بالاستمرار عليه ، إرهافا لعزمه ، وشحذا لنشاطه ليكون إقباله على [ ص: 284 ] التذكير بشراشره ، فإن امتثال الأمر إذا عاضده إقبال النفس على فعل المأمور به كان فيه مسرة للمأمور ، فجمع بين أداء الواجب وإرضاء الخاطر .

فالفاء للتفريع على ما تقدم تفريع النتيجة على المقدمات .

والأمر : مستعمل في طلب الدوام .

والتذكير : تبليغ الذكر وهو القرآن .

والذكرى : اسم مصدر التذكير وقد تقدم في سورة عبس .

ومفعول فذكر محذوف لقصد التعميم ، أي : فذكر الناس ودل عليه قوله : سيذكر من يخشى الآيتين .

وجملة إن نفعت الذكرى معترضة بين الجملتين المعللة وعلتها ، وهذا الاعتراض منظور فيه إلى العموم الذي اقتضاه حذف مفعول فذكر ، أي : فدم على تذكير الناس كلهم إن نفعت الذكرى جميعهم ، أي : وهي لا تنفع إلا البعض وهو الذي يؤخذ من قوله : سيذكر من يخشى الآية .

فالشرط في قوله : إن نفعت الذكرى جملة معترضة وليس متعلقا بالجملة ولا تقييدا لمضمونها ، إذ ليس المعنى : فذكر إذا كان للذكرى نفع ، حتى يفهم منه بطريق مفهوم المخالفة أن لا تذكر إذا لم تنفع الذكرى ، إذ لا وجه لتقييد التذكير بما إذا كانت الذكرى نافعة إذ لا سبيل إلى تعرف مواقع نفع الذكرى ، ولذلك كان قوله تعالى : فذكر بالقرآن من يخاف وعيد مؤولا بأن المعنى فذكر بالقرآن فيتذكر من يخاف وعيد ، بل المراد فذكر الناس كافة إن كانت الذكرى تنفع جميعهم ، فالشرط مستعمل في التشكيك ; لأن أصل الشرط بـ إن أن يكون غير مقطوع بوقوعه ، فالدعوة عامة وما يعلمه الله من أحوال الناس في قبول الهدى وعدمه أمر استأثر الله بعلمه ، فأبو جهل مدعو للإيمان والله يعلم أنه لا يؤمن لكن الله لم يخص بالدعوة من يرجى منهم الإيمان دون غيرهم ، والواقع يكشف المقدور .

وهذا تعريض بأن في القوم من لا تنفعه الذكرى وذلك يفهم من اجتلاب حرف إن المقتضي عدم احتمال وقوع الشرط أو ندرة وقوعه ، ولذلك جاء بعده بقوله : [ ص: 285 ] سيذكر من يخشى فهو استئناف بياني ناشئ عن قوله : فذكر وما لحقه من الاعتراض بقوله : إن نفعت الذكرى المشعر بأن التذكير لا ينتفع به جميع المذكرين .

وهذا معنى قول ابن عباس : تنفع أوليائي ولا تنفع أعدائي ، وفي هذا ما يريك معنى الآية واضحا لا غبار عليه ويدفع حيرة كثير من المفسرين في تأويل معنى إن ، ولا حاجة إلى تقدير الفراء والنحاس : إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع ، وأنه اقتصر على القسم الواحد لدلالته على الثاني .

ويذكر : مطاوع ذكره . وأصله : يتذكر ، فقلبت التاء ذالا لقرب مخرجيهما ليأتي إدغامها في الذال الأخرى .

و من يخشى : جنس لا فرد معين أي : سيتذكر الذين يخشون . والضمير المستتر في يخشى مراعى فيه لفظ من فإنه لفظ مفرد .

وقد نزل فعل يخشى منزلة اللازم فلم يقدر له المفعول ، أي : يتذكر من الخشية فكرته وجبلته ، أي : من يتوقع حصول الضر والنفع فينظر في مظان كل ويتدبر في الدلائل ; لأنه يخشى أن يحق عليه ما أنذر به .

والخشية : الخوف ، وتقدم في قوله تعالى : لعله يتذكر أو يخشى في سورة طه ، والخشية ذات مراتب وفي درجاتها يتفاضل المؤمنون .

والتجنب : التباعد ، وأصله تفعل لتكلف الكينونة بجانب من شيء .

والجانب : المكان الذي هو طرف لغيره ، وتكلف الكينونة به كناية عن طلب البعد أي : بمكان بعيد منه ، أي : يتباعد عن الذكرى الأشقى .

والتعريف في الأشقى تعريف الجنس ، أي : الأشقون .

والأشقى هو شديد الشقوة والشقوة والشقاء في لسان الشرع الحالة الناشئة في الآخرة عن الكفر من حالة الإهانة والتعذيب ، وعندنا أن من علم إلى موته مؤمنا فليس بشقي .

فالأشقى : هو الكافر لأنه أشد الناس شقاء في الآخرة لخلوده في النار .

[ ص: 286 ] وتعريف الأشقى تعريف الجنس ، فيشمل جميع المشركين . ومن المفسرين من حمله على العهد فقال : أريد به الوليد بن المغيرة ، أو عتبة بن ربيعة .

ووصف الأشقى بـ الذي يصلى النار الكبرى ; لأن إطلاق الأشقى في هذه الآية في صدر مدة البعثة المحمدية فكان فيه من الإبهام ما يحتاج إلى البيان فأتبع بوصف يبينه في الجملة ما نزل من القرآن من قبل هذه الآية .

ومقابلة من يخشى بـ الأشقى تؤذن بأن الأشقى من شأنه أن لا يخشى فهو سادر في غروره منغمس في لهوه فلا يتطلب لنفسه تخلصا من شقائه .

ووصف النار بـ الكبرى للتهويل والإنذار والمراد بها جهنم .

وجملة ثم لا يموت فيها ولا يحيا عطف على جملة يصلى النار الكبرى فهي صلة ثانية .

وثم للتراخي الرتبي تدل على أن معطوفها متراخي الرتبة في الغرض المسوق له الكلام وهو شدة العذاب ، فإن تردد حاله بين الحياة والموت وهو في عذاب الاحتراق عذاب أشد مما أفاده أنه في عذاب الاحتراق . ضرورة أن الاحتراق واقع وقد زيد فيه درجة أنه لا راحة منه بموت ولا مخلص منه بحياة .

فمعنى لا يموت : لا يزول عنه الإحساس ، فإن الموت فقدان الإحساس مع ما في هذه الحالة من الأعجوبة ، وهي مما يؤكد اعتبار تراخي الرتبة في هذا التنكيل .

وتعقيبه بقوله : ولا يحيا احتراس لدفع توهم أن يراد بنفي الموت عنهم أنهم استراحوا من العذاب لما هو متعارف من أن الاحتراق يهلك المحرق ، فإذا قيل لا يموت توهم المنذرون أن ذلك الاحتراق لا يبلغ مبلغ الإهلاك فيبقى المحرق حيا فيظن أنه إحراق هين ، فيكون مسلاة للمهددين ، فلدفع ذلك عطف عليه ولا يحيا ، أي : حياة خالصة من الآلام والقرينة على الوصف المذكور مقابلة ولا يحيا بقوله : يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها .

[ ص: 287 ] وليس هذا من قبيل نفي وصفين لإثبات حالة وسط بين حالتيهما مثل لا شرقية ولا غربية وقول إحدى نساء أم زرع : " لا حر ولا قر " . لأن ذلك لا طائل تحته .

ويجوز أن نجعل نفي الحياة كناية عن نفي الخلاص بناء على أن لازم الإحراق الهلاك ولازم الحياة عدم الهلاك .

وفي الآية محسن الطباق لأجل التضاد الظاهر بين لا يموت ولا يحيا .

التالي السابق


الخدمات العلمية