الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين .

عطف الإنكار على الملام المتقدم في قوله تعالى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة وقوله ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه وكل هاته [ ص: 110 ] الجمل ترجع إلى العتاب والتقريع على أحوال كثيرة ، كانت سبب الهزيمة يوم أحد ، فيأخذ كل من حضر الوقعة من هذا الملام بنصيبه المناسب لما يعلمه من حاله ظاهرا كان أم باطنا .

والآية تشير إلى ما كان من المسلمين من الاضطراب حين أرجف بموت الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال المنافقون : لو كان نبيا ما قتل ، فارجعوا إلى دينكم القديم وإخوانكم من أهل مكة ونكلم عبد الله بن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان ، فهموا بترك القتال والانضمام للمشركين ، وثبت فريق من المسلمين ، منهم : أنس بن النضر الأنصاري ، فقال : إن كان قتل محمد فإن رب محمد حي لا يموت ، وما تصنعون بالحياة بعده ، فقاتلوا على ما قاتل عليه .

و محمد اسم رسول الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب - صلى الله عليه وسلم - سماه به جده عبد المطلب وقيل له : لم سميته محمدا وليس من أسماء آبائك ؟ فقال : رجوت أن يحمده الناس . وقد قيل : لم يسم أحد من العرب محمدا قبل رسول الله . ذكر السهيلي في الروض أنه لم يسم به من العرب قبل ولادة رسول الله إلا ثلاثة : محمد بن سفيان بن مجاشع ، جد جد الفرزدق ، ومحمد بن أحيحة بن الجلاح الأوسي . ومحمد بن حمران من ربيعة .

وهذا الاسم من اسم مفعول حمده تحميدا إذا أكثر من حمده ، والرسول فعول بمعنى مفعول مثل قولهم : حلوب وركوب وجزور .

ومعنى خلت مضت وانقرضت كقوله : قد خلت من قبلكم سنن وقول امرئ القيس :

. . . . من كان في العصر الخالي

وقصر محمدا على وصف الرسالة قصر موصوف على الصفة . قصرا إضافيا لرد ما يخالف ذلك رد إنكار ، سواء كان قصر قلب أو قصر إفراد .

والظاهر أن جملة قد خلت من قبله الرسل صفة لرسول فتكون هي محط القصر : أي ما هو إلا رسول موصوف بخلو الرسل قبله أي انقراضهم . [ ص: 111 ] وهذا الكلام مسوق لرد اعتقاد من يعتقد انتفاء خلو الرسل من قبله ، وهذا الاعتقاد وإن لم يكن حاصلا لأحد من المخاطبين ، إلا أنهم لما صدر عنهم ما من شأنه أن يكون أثرا لهذا الاعتقاد ، وهو عزمهم على ترك نصرة الدين والاستسلام للعدو كانوا أحرياء بأن ينزلوا منزلة من يعتقد انتفاء خلو الرسل من قبله ، حيث يجدون أتباعهم ثابتين على مللهم حتى الآن فكان حال المخاطبين حال من يتوهم التلازم بين بقاء الملة وبقاء رسولها ، فيستدل بدوام الملة على دوام رسولها ، فإذا هلك رسول ملة ظنوا انتهاء شرعه وإبطال اتباعه .

فالقصر على هذا الوجه قصر قلب ، وهو قلب اعتقادهم لوازم ضد الصفة المقصور عليها ، وهي خلو الرسل قبله ، وتلك اللوازم هي الوهن والتردد في الاستمرار على نشر دعوة الإسلام ، وبهذا يشعر كلام صاحب الكشاف .

وجعل السكاكي المقصور عليه هو وصف الرسالة فيكون محط القصر هو قوله رسول دون قوله قد خلت من قبله الرسل ويكون القصر قصر إفراد بتنزيل المخاطبين منزلة من اعتقد وصفه بالرسالة مع التنزه عن الهلاك ، حين رتبوا على ظن موته ظنونا لا يفرضها إلا من يعتقد عصمته من الموت ، ويكون قوله قد خلت من قبله الرسل على هذا الوجه استئنافا لا صفة ، وهو بعيد ، لأن المخاطبين لم يصدر منهم ما يقتضي استبعاد خبر موته ، بل هم ظنوه صدقا .

وعلى كلا الوجهين فقد نزل المخاطبون منزلة من يجهل قصر الموصوف على هذه الصفة وينكره ، فلذلك خوطبوا بطريق النفي والاستثناء ، الذي كثر استعماله في خطاب من يجهل الحكم المقصور عليه وينكره دون طريق ، إنما كما بينه صاحب المفتاح .

وقوله أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم عطف على قوله وما محمد إلا رسول إلخ . والفاء لتعقيب مضمون الجملة المعطوف عليها بمضمون الجملة المعطوفة ، ولما كان مضمون الجملة المعطوفة إنشاء الاستفهام الإنكاري على مضمونها ، وهو الشرط وجزاؤه ، لم يكن للتعقيب المفاد من فاء العطف [ ص: 112 ] معنى إلا ترتب مضمون المعطوف على المعطوف عليها ، ترتب المسبب على السبب ، فالفاء حينئذ للسببية ، وهمزة الاستفهام مقدمة من تأخير ، كشأنها مع حروف العطف ، والمعنى ترتب إنكار أن ينقلبوا على أعقابهم على تحقيق مضمون جملة القصر : لأنه إذا تحقق مضمون جملة القصر ، وهو قلب الاعتقاد أو إفراد أحد الاعتقادين ، تسبب عليه أن يكون انقلابهم على الأعقاب على تقدير أن يموت أو يقتل أمرا منكرا جديرا بعدم الحصول ، فكيف يحصل منهم ، وهذا الحكم يؤكد ما اقتضته جملة القصر من التعريض بالإنكار عليهم في اعتقادهم خلاف مضمون جملة القصر ، فقد حصل الإنكار عليهم مرتين : إحداهما بالتعريض المستفاد من جملة القصر ، والأخرى بالتصريح الواقع في هاته الجملة .

وقال صاحب الكشاف : الهمزة لإنكار تسبب الانقلاب على خلو الرسول ، وهو التسبب المفاد من الفاء أي إنكار مجموع مدلول الفاء ومدلول مدخولها مثل إنكار الترتيب والمهلة في قوله تعالى أثم إذا ما وقع آمنتم به وقول النابغة :


أثم تعذران إلي منها     فإني قد سمعت وقد رأيت

بأن أنكر عليهم جعلهم خلو الرسل قبله سببا لارتدادهم عند العلم بموته . وعلى هذا فالهمزة غير مقدمة من تأخير لأنها دخلت على فاء السببية . ويرد عليه أنه ليس علمهم بخلو الرسل من قبله مع بقاء أتباعهم متمسكين سببا لانقلاب المخاطبين على أعقابهم ، وأجيب بأن المراد أنهم لما علموا خلو الرسل من قبله مع بقاء مللهم ، ولم يجروا على موجب علمهم ، فكأنهم جعلوا علمهم سببا في تحصيل نقيض أثره ، على نحو ما يعرض من فساد الوضع في الاستدلال الجدلي ، وفي هذا الوجه تكلف وتدقيق كثير .

وذهب جماعة إلى الفاء لمجرد التعقب الذكري ، أو الاستئناف ، وأنه عطف إنكار تصريحي على إنكار تعريضي ، وهذا الوجه وإن كان سهلا غير أنه يفيد خصوصية العطف بالفاء دون غيرها ، على أن شأن الفاء المفيدة [ ص: 113 ] للترتيب الذكري المحض أن يعطف بها الأوصاف نحو والصافات صفا فالزاجرات زجرا أو أسماء الأماكن نحو قوله :


بين الدخول فحومل     فتوضح فالمقراة . .

إلخ والانقلاب : الرجوع إلى المكان ، يقال : انقلب إلى منزله ، وهو هنا مجاز في الرجوع إلى الحال التي كانوا عليها ، أي حال الكفر . وعلى للاستعلاء المجازي لأن الرجوع في الأصل يكون مسببا على طريق . والأعقاب جمع عقب وهو مؤخرة الرجل ، وفي الحديث ويل للأعقاب من النار والمراد جهة الأعقاب أي الوراء .

وقوله ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا أي شيئا من الضر ، ولو قليلا ، لأن الارتداد عن الدين إبطال لما فيه صلاح الناس ، فالمرتد يضر بنفسه وبالناس ، ولا يضر الله شيئا ، ولكن الشاكر الثابت على الإيمان يجازى بالشكر لأنه سعى في صلاح الناس ، والله يحب الصلاح ولا يحب الفساد .

والمقصود من الآية العتاب على ما وقع من الاضطراب ، والثناء على الذين ثبتوا ووعظوا الناس ، والتحذير من وقوع الارتداد عند موت الرسول - عليه السلام - ، وقد وقع ما حذرهم الله منه بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ ارتد كثير من المسلمين ، وظنوا اتباع الرسول مقصورا على حياته ، ثم هداهم الله بعد ذلك ، فالآية فيها إنباء بالمستقبل .

التالي السابق


الخدمات العلمية