الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا .

تفريع عن أخبار المنافقين التي تقدمت ، لأن ما وصف من أحوالهم لا يترك شكا عند المؤمنين في خبث طويتهم وكفرهم ، أو هو تفريع عن قوله ومن أصدق من الله حديثا . وإذ قد حدث الله عنهم بما وصف من سابق الآي ، فلا يحق التردد في سوء نواياهم وكفرهم ، فموقع الفاء هنا نظير موقع الفاء في قوله فقاتل في سبيل الله في سورة النساء .

[ ص: 149 ] والاستفهام للتعجيب واللوم . والتعريف في المنافقين للعهد . و " فئتين " حال من الضمير المجرور باللام فهي قيد لعامله ، الذي هو التوبيخ ، فعلم أن محل التوبيخ هو الانقسام . و " في المنافقين " متعلق بفئتين لتأويله بمعنى : منقسمين ، ومعناه : في شأن المنافقين ، لأن الحكم لا يتعلق بذوات المنافقين .

والفئة : الطائفة . وزنها فلة ، مشتقة من الفيء وهو الرجوع ، لأنهم يرجع بعضهم إلى بعض في شئونهم . وأصلها فيء ، فحذفوا الياء من وسطه لكثرة الاستعمال وعوضوا عنها الهاء .

وقد علم أن الانقسام إلى فئتين ما هو إلا انقسام في حالة من حالتين ، والمقام للكلام في الإيمان والكفر ، أي فما لكم بين مكفر لهم ومبرر; وفي إجراء أحكام الإيمان أو الكفر عليهم . قيل : نزلت هذه الآية في المنخذلين يوم أحد : عبد الله بن أبي وأتباعه ، اختلف المسلمون في وصفهم بالإيمان أو الكفر بسبب فعلتهم تلك .

وفي صحيح البخاري عن زيد بن ثابت قال : رجع ناس من أصحاب النبيء من أحد ، وكان الناس فيهم فريقين ، فريق يقول : اقتلهم ، وفريق يقول : لا ، فنزلت فما لكم في المنافقين فئتين .

وقال إنها طيبة تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة أي ولم يقتلهم النبيء - صلى الله عليه وسلم - جريا على ظاهر حالهم من إظهار الإسلام . فتكون الآية لبيان أنه ما كان ينبغي التردد في أمرهم .

وعن مجاهد : أنها نزلت في قوم من أهل مكة أظهروا الإيمان ، وهاجروا إلى المدينة ، ثم استأذنوا في الرجوع إلى مكة ، ليأتوا ببضاعة يتجرون فيها ، وزعموا أنهم لم يزالوا مؤمنين ، فاختلف المسلمون في شأنهم : أهم مشركون أم مسلمون .

ويبينه ما روي عن ابن عباس أنها نزلت في قوم كانوا من أهل مكة يبطنون الشرك ويظهرون الإسلام للمسلمين ، ليكونوا في أمن من تعرض المسلمين لهم بحرب في خروجهم في تجارات أو نحوها ، وأنه قد بلغ المسلمين أنهم خرجوا من مكة في تجارة ، فقال فريق من المسلمين : نركب إليهم فنقاتلهم ، وقال فريق : كيف نقتلهم وقد نطقوا بالإسلام ، فاختلف المسلمون في ذلك ، ولم يغير رسول الله على أحد من الفريقين حتى نزلت الآية .

[ ص: 150 ] وعن الضحاك : نزلت في قوم أظهروا الإسلام بمكة ولم يهاجروا ، وكانوا يظاهرون المشركين على المسلمين ، وهم الذين قال الله تعالى فيهم إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم الآية .

وأحسب أن هؤلاء الفرق كلهم كانوا معروفين وقت نزول الآية ، فكانوا مثلا لعمومها وهي عامة فيهم وفي غيرهم من كل من عرف بالنفاق يومئذ من أهل المدينة ومن أهل مكة .

والظاهر أن الآية نزلت بعد أن فات وقت قتالهم ، لقصد عدم التعرض لهم وقت خروجهم ، استدراجا لهم إلى يوم فتح مكة .

وعلى جميع الاحتمالات فموقع الملام هو الخطأ في الاجتهاد لضعف دليل المخطئين لأن دلائل كفر المتحدث عنهم كانت ترجح على دليل إسلامهم الذي هو مجرد النطق بكلمة الإسلام ، مع التجرد عن إظهار موالاة المسلمين .

وهذه الآية دليل على أن المجتهد إذا استند إلى دليل ضعيف ما كان من شأنه أن يستدل به العالم لا يكون بعيدا عن الملام في الدنيا ، على أن أخطأ فيما لا يخطئ أهل العلم في مثله .

وجملة والله أركسهم بما كسبوا حالية ، أي إن كنتم اختلفتم فيهم فالله قد ردهم إلى حالهم السوأى ، لأن معنى أركس رد إلى الركس ، والركس قريب من الرجس .

وفي حديث الصحيح في الروث إن هذا ركس وقيل : معنى أركس نكس ، أي رد ردا شنيعا ، وهو مقارب للأول . وقد جعل الله ردهم إلى الكفر جزاء لسوء اعتقادهم وقلة إخلاصهم مع رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن الأعمال تتوالد من جنسها ، فالعمل الصالح يأتي بزيادة الصالحات ، والعمل السيئ يأتي بمنتهى المعاصي ، ولهذا تكرر في القرآن الإخبار عن كون العمل سببا في بلوغ الغايات من جنسه .

وقوله أتريدون أن تهدوا من أضل الله استئناف بياني نشأ عن اللوم والتعجيب الذي في قوله فما لكم في المنافقين فئتين ، لأن السامعين يترقبون بيان وجه اللوم ، ويتساءلون عماذا يتخذون نحو هؤلاء المنافقين .

وقد دل الاستفهام الإنكاري المشوب باللوم على جملة محذوفة هي محل الاستئناف البياني ، وتقديرها : إنهم قد أضلهم الله ، أتريدون أن تهدوا من أضل الله ، بناء على أن قوله والله أركسهم ليس المراد منه أنه [ ص: 151 ] أضلهم ، بل المراد منه أساء حالهم ، وسوء الحال أمر مجمل يفتقر إلى البيان ، فيكون فصل الجملة فصل الاستئناف .

وإن جعلت معنى والله أركسهم أنه ردهم إلى الكفر ، كانت جملة أتريدون استئنافا ابتدائيا ، ووجه الفصل أنه إقبال على اللوم والإنكار ، بعد جملة والله أركسهم التي هي خبرية ، فالفصل لكمال الانقطاع لاختلاف الغرضين .

التالي السابق


الخدمات العلمية