الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون .

جملة وقعت معترضة بين آية المحرمات المتقدمة ، وبين آية الرخصة الآتية : وهي قوله فمن اضطر في مخمصة لأن اقتران الآية بفاء التفريع يقضي باتصالها بما تقدمها ، ولا يصلح للاتصال بها إلا قوله حرمت عليكم الميتة الآية .

والمناسبة في هذا الاعتراض : هي أن الله لما حرم أمورا كان فعلها من جملة دين الشرك ، وهي ما أهل لغير الله به ، وما ذبح على النصب ، وتحريم الاستقسام بالأزلام ، وكان في كثير منها تضييق عليهم بمفارقة معتادهم ، والتقليل من أقواتهم ، أعقب هذه الشدة بإيناسهم بتذكير أن هذا كله إكمال لدينهم ، وإخراج لهم من أحوال ضلال الجاهلية ، وأنهم كما أيدوا بدين عظيم سمح فيه صلاحهم ، فعليهم أن يقبلوا ما فيه من الشدة الراجعة إلى إصلاحهم : فالبعض مصلحته راجعة إلى المنافع البدنية ، والبعض مصلحته راجعة إلى الترفع عن حضيض الكفر : وهو ما أهل به لغير الله ، وما ذبح على النصب . والاستقسام بالأزلام أذكرهم بفوزهم على من يناويهم ، وبمحاسن دينهم وإكماله ، فإن من إكمال الإصلاح إجراء الشدة عند الاقتضاء . وذكروا بالنعمة ، على عادة القرآن في تعقيب الشدة باللين . وكان المشركون ، زمانا ، إذا سمعوا أحكام الإسلام رجوا أن تثقل على المسلمين فيرتدوا عن الدين ، ويرجعوا [ ص: 100 ] إلى الشرك ، كما قال المنافقون : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا . فلما نزلت هذه الأحكام أنزل الله هذه الآية : بشارة للمؤمنين ، ونكاية بالمشركين . وقد روي : أنها نزلت يوم فتح مكة ، كما رواه الطبري عن مجاهد ، والقرطبي عن الضحاك . وقيل : نزلت يوم عرفة في حجة الوداع مع الآية التي ستأتي عقبها ، وهو ما رواه الطبري عن ابن زيد وجمع ، ونسبه ابن عطية إلى عمر بن الخطاب وهو الأصح .

فـ ( اليوم ) يجوز أن يراد به اليوم الحاضر ، وهو يوم نزول الآية ، وهو إن أريد به يوم فتح مكة ، فلا جرم أن ذلك اليوم كان أبهج أيام الإسلام ، وظهر فيه من قوة الدين ، بين ظهراني من بقي على الشرك ، ما أيأسهم من تقهقر أمر الإسلام ، ولا شك أن قلوب جميع العرب كانت متعلقة بمكة وموسم الحج ومناسكه : التي كانت فيها حياتهم الاجتماعية والتجارية والدينية والأدبية ، وقوام شئونهم ، وتعارفهم ، وفصل نزاعهم ، فلا جرم أن يكون انفراد المسلمين بتلك المواطن قاطعا لبقية آمالهم : من بقاء دين الشرك ، ومن محاولة الفت في عضد الإسلام . فذلك اليوم على الحقيقة يوم تمام اليأس وانقطاع الرجاء ، وقد كانوا قبل ذلك يعاودهم الرجاء تارة . فقد قال أبو سفيان يوم أحد : " اعل هبل وقال لنا العزى ولا عزى لكم " . وقال صفوان بن أمية أو أخوه ، يوم هوازن ، حين انكشف المسلمون وظنها هزيمة للمسلمين : " ألا بطل السحر اليوم " .

وكان نزول هذه الآية يوم حجة الوداع مع الآية التي بعدها ، كما يؤيده قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خطبته يومئذ في قول كثير من أصحاب السير : أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا ولكنه قد رضي منكم بما دون ذلك فيما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على أنفسكم .

و ( اليوم ) يجوز أن يراد به يوم معين ، جدير بالامتنان بزمانه ، [ ص: 101 ] ويجوز أن يجعل ( اليوم ) بمعنى الآن ، أي زمان الحال الصادق بطائفة من الزمان ، رسخ اليأس في خلالها ، في قلوب أهل الشرك بعد أن خامر نفوسهم التردد في ذلك ، فإن العرب يطلقون ( اليوم ) على زمن الحال ، و ( الأمس ) على الماضي ، و ( الغد ) على المستقبل . قال زهير :


وأعلم علم اليوم والأمس قبـلـه ولكنني عن علم ما في غد عمي

يريد باليوم زمان الحال ، وبالأمس ما مضى ، وبالغد ما يستقبل ، ومنه قول زياد الأعجم :


رأيتك أمس خير بني معـد     وأنت اليوم خير منك أمس
وأنت غدا تزيد الخير خيرا     كذاك تزيد سادة عبد شمس

وفعل ( يئس ) يتعدى بـ ( من ) إلى الشيء الذي كان مرجوا من قبل ، وذلك هو القرينة على أن دخول ( من ) التي هي لتعدية ( يئس ) على قوله ( دينكم ) ، إنما هو بتقدير مضاف ، أي يئسوا من أمر دينكم ، يعني الإسلام ، ومعلوم أن الأمر الذي كانوا يطمعون في حصوله : هو فتور انتشار الدين وارتداد متبعيه عنه .

وتفريع النهي عن خشية المشركين في قوله : ( فلا تخشوهم ) على الإخبار عن يأسهم من أذى الدين : لأن يأس العدو من نوال عدوه يزيل بأسه ، ويذهب حماسه ، ويقعده عن طلب عدوه . وفي الحديث : ( نصرت بالرعب ) . فلما أخبر عن يأسهم طمن المسلمين من بأس عدوهم ، فقال فلا تخشوهم واخشون أو لأن اليأس لما كان حاصلا من آثار انتصارات المسلمين ، يوما فيوما ، وذلك من تأييد الله لهم ، ذكر الله المسلمين بذلك بقوله اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ، وإن فريقا لم يغن عنهم بأسهم من الله شيئا لأحرياء بأن لا يخشى بأسهم ، وأن يخشى من خذلهم ومكن أولياءه منهم .

[ ص: 102 ] وقد أفاد قوله ( فلا تخشوهم واخشون ) مفاد صيغة الحصر ، ولو قيل : فإياي فاخشون لجرى على الأكثر في مقام الحصر ، ولكن عدل إلى جملتي نفي وإثبات : لأن مفاد كلتا الجملتين مقصود ، فلا يحسن طي إحداهما . وهذا من الدواعي الصارفة عن صيغة الحصر إلى الإتيان بصيغتي إثبات ونفي ، كقول السموأل أو عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي :


تسيل على حد الظبات نفوسنـا     وليست على غير الظبات تسيل

ونظيره قوله الآتي فلا تخشوا الناس واخشون .

التالي السابق


الخدمات العلمية