الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين .

[ ص: 32 ] هذه الآية بيان لما عرض من إجمال في فهم الآية التي قبلها ، إذ ظن بعض المسلمين أن شرب الخمر قبل نزول هذه الآية قد تلبس بإثم لأن الله وصف الخمر وما ذكر معها بأنها رجس من عمل الشيطان . فقد كان سبب نزول هذه الآية ما في الصحيحين وغيرهما عن أنس بن مالك ، والبراء ابن عازب ، وابن عباس ، أنه لما نزل تحريم الخمر قال ناس من أصحاب النبيء صلى الله عليه وسلم : كيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر أو قال وهي في بطونهم وأكلوا الميسر . فأنزل الله ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا الآية . وفي تفسير الفخر روى أبو بكر الأصم أنه لما نزل تحريم الخمر قال أبو بكر الصديق : يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القمار ، وكيف بالغائبين عنا في البلدان لا يشعرون أن الله حرم الخمر وهم يطعمونها . فأنزل الله هذه الآيات .

وقد يلوح ببادئ الرأي أن حال الذين توفوا قبل تحريم الخمر ليس حقيقا بأن يسأل عنه الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم للعلم بأن الله لا يؤاخذ أحدا بعمل لم يكن محرما من قبل فعله ، وأنه لا يؤاخذ أحدا على ارتكابه إلا بعد أن يعلم بالتحريم ، فالجواب أن أصحاب النبيء صلى الله عليه وسلم كانوا شديدي الحذر مما ينقص الثواب حريصين على كمال الاستقامة فلما نزل في الخمر والميسر أنهما رجس من عمل الشيطان خشوا أن يكون للشيطان حظ في الذين شربوا الخمر وأكلوا اللحم بالميسر وتوفوا قبل الإقلاع عن ذلك أو ماتوا والخمر في بطونهم مخالطة أجسادهم ، فلم يتمالكوا أن سألوا النبيء صلى الله عليه وسلم عن حالهم لشدة إشفاقهم على إخوانهم . كما سأل عبد الله بن أم مكتوم لما نزل قوله تعالى ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ) ، فقال : يا رسول الله ، فكيف وأنا أعمى لا أبصر فأنزل الله غير أولي الضرر . وكذلك ما وقع لما غيرت القبلة من استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة قال ناس : فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يستقبلون بيت المقدس ، فأنزل الله تعالى [ ص: 33 ] وما كان الله ليضيع إيمانكم ، أي صلاتكم فكان القصد من السؤال التثبت في التفقه وأن لا يتجاوزوا التلقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور دينهم .

ونفي الجناح نفي الإثم والعصيان . و ( ما ) موصولة . و طعموا صلة . وعائد الصلة محذوف . وليست ( ما ) مصدرية لأن المقصود العفو عن شيء طعموه معلوم من السؤال ، فتعليق ظرفية ما طعموا بالجناح هو على تقدير : في طعم ما طعموه .

وأصل معنى طعموا أنه بمعنى أكلوا ، قال تعالى فإذا طعمتم فانتشروا . وحقيقة الطعم الأكل ، والشيء المأكول طعام . وليس الشراب من الطعام بل هو غيره ; ولذلك عطف في قوله تعالى فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه . ويدل لذلك استثناء المأكولات في قوله تعالى قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به . ويقال : طعم بمعنى أذاق ومصدره الطعم بضم الطاء اعتبروه مشتقا من الطعم الذي هو حاسة الذوق . وتقدم قوله تعالى ومن لم يطعمه فإنه مني ، أي ومن لم يذقه ، بقرينة قوله فمن شرب منه . ويقال : وجدت في الماء طعم التراب . ويقال تغير طعم الماء ، أي أسن . فمن فصاحة القرآن إيراد فعل طعموا هنا لأن المراد نفي التبعة عمن شربوا الخمر وأكلوا لحم الميسر قبل نزول آية تحريمهما . واستعمل اللفظ في معنييه ، أي في حقيقته ومجازه ، أو هو من أسلوب التغليب .

وإذ قد عبر بصيغة المضي في قوله طعموا تعين أن يكون إذا ظرفا للماضي ، وذلك على أصح القولين للنحاة ، وإن كان المشهور أن ( إذا ) ظرف للمستقبل ، والحق أن ( إذا ) تقع ظرفا للماضي . وهو الذي اختاره ابن مالك ودرج عليه ابن هشام في مغني اللبيب . وشاهده قوله تعالى ولا على الذين [ ص: 34 ] إذا ما أتوك لتحملهم ، وقوله وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ، وآيات كثيرة . فالمعنى لا جناح عليهم إذ كانوا آمنوا واتقوا ، ويئول معنى الكلام : ليس عليهم جناح لأنهم آمنوا واتقوا فيما كان محرما يومئذ وما تناولوا الخمر وأكلوا الميسر إلا قبل تحريمهما .

هذا تفسير الآية الجاري على ما اعتمده جمهور المفسرين جاريا على ما ورد في من سبب نزولها في الأحاديث الصحيحة .

ومن المفسرين من جعل معنى الآية غير متصل بآية تحريم الخمر والميسر . وأحسب أنهم لم يلاحظوا ما روي في سبب نزولها لأنهم رأوا أن سبب نزولها لا يقصرها على قضية السبب بل يعمل بعموم لفظها على ما هو الحق في أن عموم اللفظ لا يخصص بخصوص السبب ، فقالوا : رفع الله الجناح عن المؤمنين في أي شيء طعموه من مستلذات المطاعم وحلالها إذا ما اتقوا ما حرم الله عليهم ، أي ليس من البر حرمان النفس بتحريم الطيبات بل البر هو التقوى ، فيكون من قبيل قوله تعالى وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى . وفسر به في الكشاف مبتدئا به .

وعلى هذا الوجه يكون معنى الآية متصلا بآية يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ، فتكون استئنافا ابتدائيا لمناسبة ما تقدم من النهي عن أن يحرموا على أنفسهم طيبات ما أحل الله لهم بنذر أو يمين على الامتناع .

وادعى بعضهم أن هذه الآية نزلت في القوم الذين حرموا على أنفسهم اللحوم وسلكوا طريق الترهب; ومنهم عثمان بن مظعون ، ولم يصح أن هذا سبب نزولها . وعلى هذا التفسير يكون طعموا مستعملا في المعنى المشهور وهو الأكل ، وتكون كلمة إذا مستعملة في المستقبل ، وفعل [ ص: 35 ] طعموا من التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي بقرينة كلمة إذا ، كما في قوله تعالى ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون .

ويعكر على هذا التفسير أن الذين حرموا الطيبات على أنفسهم لم ينحصر تحريمهم في المطعوم والشراب بل يشمل اللباس والنساء ، اللهم إلا أن يقال : إن الكلام جرى على مراعاة الغالب في التحريم .

وقال الفخر : زعم بعض الجهال أن الله تعالى لما جعل الخمر محرمة عندما تكون موقعة للعداوة والبغضاء وصادة عن ذكر الله وعن الصلاة بين في هذه الآية أنه لا جناح على من طعمها إذا لم يحصل معه شيء من تلك المفاسد بل حصل معه الطاعة والتقوى والإحسان إلى الخلق ، ولا يمكن حمله على أحوال من شرب الخمر قبل نزول آية التحريم ; لأنه لو كان ذلك لقال ما كان جناح على الذين طعموا ، كما ذكر في آية تحويل القبلة ، فقال وما كان الله ليضيع إيمانكم ولا شك أن ( إذا ) للمستقبل لا للماضي . قال الفخر : وهذا القول مردود بإجماع كل الأمة . وأما قولهم ( إذا ) للمستقبل ، فجوابه أن الحل للمستقبل عن وقت نزول الآية في حق الغائبين .

والتقوى امتثال المأمورات واجتناب المنهيات ، ولذلك فعطف وعملوا الصالحات على اتقوا من عطف الخاص على العام ، للاهتمام به ، كقوله تعالى من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائل ، ولأن اجتناب المنهيات أسبق تبادرا إلى الأفهام في لفظ التقوى لأنها مشتقة من التوقي والكف .

وأما عطف وآمنوا على اتقوا فهو اعتراض للإشارة إلى أن الإيمان هو أصل التقوى ، كقوله تعالى فك رقبة أو إطعام إلى قوله ثم كان من الذين آمنوا . والمقصود من هذا الظرف الذي هو كالشرط مجرد التنويه بالتقوى والإيمان والعمل الصالح ، وليس المقصود أن نفي [ ص: 36 ] الجناح عنهم مقيد بأن يتقوا ويؤمنوا ويعملوا الصالحات ، للعلم بأن لكل عمل أثرا على فعله أو على تركه ، وإذ قد كانوا مؤمنين من قبل ، وكان الإيمان عقدا عقليا لا يقبل التجدد تعين أن المراد بقوله وآمنوا معنى وداموا على الإيمان ولم ينقضوه بالكفر .

وجملة ثم اتقوا وآمنوا تأكيد لفظي لجملة إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات وقرن بحرف ( ثم ) الدال على التراخي الرتبي ليكون إيماء إلى الازدياد في التقوى وآثار الإيمان ، كالتأكيد في قوله تعالى كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون ولذلك لم يكرر قوله وعملوا الصالحات لأن عمل الصالحات مشمول للتقوى .

وأما جملة ثم اتقوا وأحسنوا فتفيد تأكيدا لفظيا لجملة ثم اتقوا . وتفيد الارتقاء في التقوى بدلالة حرف ( ثم ) على التراخي الرتبي . مع زيادة صفة الإحسان . وقد فسر النبيء صلى الله عليه وسلم الإحسان بقوله أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك . وهذا يتضمن الإيمان لا محالة فلذلك استغني عن إعادة وآمنوا هنا . ويشمل فعل وأحسنوا الإحسان إلى المسلمين ، وهو زائد على التقوى ، لأن منه إحسانا غير واجب وهو مما يجلب مرضاة الله ، ولذلك ذيله بقوله والله يحب المحسنين .

وقد ذهب المفسرون في تأويل التكرير الواقع في هذه الآية طرائق مختلفة لا دلائل عليها في نظم الآية ، ومرجعها جعل التكرير في قوله ثم اتقوا على معنى تغاير التقوى والإيمان باختلاف الزمان أو باختلاف الأحوال .

وذهب بعضهم في تأويل قوله تعالى إذا ما اتقوا وما عطف عليه إلى وجوه نشأت عن حمله على معنى التقييد لنفي الجناح بحصول المشروط . وفي جلبها طول .

وقد تقدم أن بعضا من السلف تأول هذه الآية على معنى الرخصة في [ ص: 37 ] شرب الخمر لمن اتقى الله فيما عد ، ولم تكن الخمر وسيلة له إلى المحرمات ، ولا إلى إضرار الناس . وينسب هذا إلى قدامة بن مظعون ، كما تقدم في تفسير آية تحريم الخمر : وأن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب لم يقبلاه منه .

التالي السابق


الخدمات العلمية