الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم

جرد ( قالوا ) من الفاء لأنه محاورة كما تقدم عند قوله تعالى قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها وافتتاح كلامهم بالتسبيح وقوف في مقام الأدب والتعظيم لذي العظمة المطلقة ، وسبحان اسم التسبيح وقد تقدم عند قوله ونحن نسبح بحمدك وهو اسم مصدر " سبح " المضاعف وليس مصدرا لأنه لم يجئ على أبنية مصادر الرباعي ، وقيل : هو مصدر سبح مخففا [ ص: 414 ] بمعنى نزه فيكون كالغفران والشكران والكفران من غفر وشكر وكفر ، وقد كثر استعماله منصوبا على المفعولية المطلقة بإضمار فعله كمعاذ الله ، وقد يخرج عن ذلك نادرا قال سبحانك اللهم ذا السبحان وكأنهم لما خصصوه في الاستعمال بجعله كالعلم على التنزيه عدلوا عن قياس اشتقاقه فصار سبحان كالعلم الجنسي مثل " برة وفجار " بكسر الراء في قول النابغة :


فحملت برة واحتملت فجار

ومنعوه من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون قال سيبويه وأما ترك تنوين سبحان فلأنه صار عندهم معرفة ، وقول الملائكة لا علم لنا إلا ما علمتنا خبر مراد منه الاعتراف بالعجز لا الإخبار عن حالهم لأنهم يوقنون أن الله يعلم ما تضمنه كلامهم . ولا أنهم قصدوا لازم الفائدة وهي أن المخبر عالم بالخبر فتعين أن الخبر مستعمل في الاعتراف . ثم إن كلامهم هذا يدل على أن علومهم محدودة غير قابلة للزيادة فهي مقصورة على ما ألهمهم الله تعالى وما يأمرهم فللملائكة علم قبول المعاني لا علم استنباطها .

وفي تصدير كلامهم بسبحانك إيماء إلى الاعتذار عن مراجعتهم بقولهم أتجعل فيها من يفسد فيها فهو افتتاح من قبيل براعة الاستهلال عن الاعتذار . والاعتذار وإن كان يحصل بقولهم لا علم لنا إلا ما علمتنا لكن حصول ذلك منه بطريق الكناية دون التصريح ، ويحصل آخر الابتداء ، فكان افتتاح كلامهم بالتنزيه تعجيلا بما يدل على ملازمة جانب الأدب العظيم إنك أنت العليم الحكيم ساقوه مساق التعليل لقولهم لا علم لنا إلا ما علمتنا لأن المحيط علمه بكل شيء المحكم لكل خلق إذا لم يجعل لبعض مخلوقاته سبيلا إلى علم شيء لم يكن لهم قبل بعلمه إذ الحصول بقدر القبول والاستعداد ؛ أي فلا مطمع لنا في تجاوز العلم إلى ما لم تهيئ لنا علمه بحسب فطرتنا . والذي دل على أن هذا القول مسوق للتعليل وليس مجرد ثناء ، هو تصديره بإن في غير رد إنكار ولا تردد .

قال الشيخ في دلائل الإعجاز : ومن شأن " إن " إذا جاءت على هذا الوجه أي أن تقع إثر كلام وتكون لمجرد الاهتمام أن تغني غناء الفاء العاطفة مثلا وأن تفيد من ربط الجملة بما قبلها أمرا عجيبا فأنت ترى الكلام بها مقطوعا موصولا . وأنشد قول بشار :

[ ص: 415 ]

بكرا صاحبي قبل الهجير     إن ذاك النجاح في التبكير

وقول بعض العرب :


فغنها وهي لك الفداء     إن غناء الإبل الحداء

فإنهما استغنيا بذكر " إن " عن الفاء . وإن خلفا الأحمر لما سأل بشارا لماذا لم يقل : بكرا فالنجاح في التبكير أجابه بشار بأنه أتى بها عربية بدوية ولو قال فالنجاح لصارت من كلام المولدين أي أجابه جوابا أحاله فيه على الذوق ، وقد بين الشيخ عبد القاهر سببه وقال الشيخ في موضع آخر : ألا ترى أن الغرض من قوله إن ذاك النجاح في التبكير أن يبين المعنى في قوله لصاحبيه بكرا وأن يحتج لنفسه في الأمر بالتبكير ويبين وجه الفائدة منه اهـ . و العليم الكثير العلم وهو من أمثلة المبالغة على الصحيح ، ويجوز كونه صفة مشبهة على تقدير تحويل " علم " المكسور اللام إلى " علم " بضم اللام ليصير من أفعال السجايا نحو ما قررناه في الرحيم ، ونحن في غنية عن هذا التكلف إذ لا ينبغي أن يبقى اختلاف في أن وزن فعيل يجيء لمعنى المبالغة وإنما أنشأ هذه التمحلات من زعموا أن فعيلا لا يجيء للمبالغة .

الحكيم فعيل من أحكم إذا أتقن الصنع بأن حاطه من الخلل . وأصل مادة حكم في كلام العرب للمنع من الفساد والخلل ومنه حكمة الدابة بالتحريك للحديدة التي توضع في فم الفرس لتمنعه من اختلال السير وأحكم فلان فلانا منعه قال جرير :

أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم     إني أخاف عليكم أن أغضبا

والحكمة بكسر الحاء ضبط العلم وكماله ، فالحكيم إما بمعنى المتقن للأمور كلها أو بمعنى ذي الحكمة ، وأيا ما كان فقد جرى بوزن فعيل على غير فعل ثلاثي وذلك مسموع قال عمرو بن معدي كرب :


أمن ريحانة الداعي السميع     يؤرقني وأصحابي هجوع

ومن شواهد النحو ما أنشده أبو علي ولم يعزه :


فمن يك لم ينجب أبوه وأمه     فإن لنا الأم النجيبة والأب

أراد الأم المنجبة بدليل قوله لم ينجب أبوه ، وفي القرآن بديع السماوات والأرض ووصف [ ص: 416 ] الحكيم ، والعرب تجري أوزان بعض المشتقات على بعض فلا حاجة إلى التكلف بتأول ( بديع السماوات والأرض ) ببديع سماواته وأرضه أي على أن " أل " عوض عن المضاف إليه فتكون الموصوف بحكيم هو السماوات والأرض وهي محكمة الخلق فإن مساق الآية تمجيد الخالق لا عجائب مخلوقاته حتى يكون بمعنى معقول . ولا إلى تأويل الحكيم بمعنى ذي الحكمة ، لأن ذلك لا يجدي في دفع بحث مجيئه من غير ثلاثي .

وتعقيب العليم بالحكيم من إتباع الوصف بأخص منه فإن مفهوم الحكمة زائد على مفهوم العلم ؛ لأن الحكمة كمال في العلم فهو كقولهم خطيب مصقع وشاعر مفلق .

وفي معارج النور للشيخ لطف الله الأرضرومي وفي الحكيم ذو الحكمة وهي العلم بالشيء وإتقان عمله ، وهو الإيجاد بالنسبة إليه والتدبير بأكمل ما تستعد له ذات المدبر - بفتح الباء - والاطلاع على حقائق الأمور اهـ . وقال أبو حامد الغزالي في المقصد الأسني : الحكيم ذو الحكمة ، والحكمة عبارة عن المعرفة بأفضل الأشياء ، فأفضل العلوم العلم بالله وأجل الأشياء هو الله ، وقد سبق أنه لا يعرفه كنه معرفته غيره ، وجلالة العلم بقدر جلالة المعلوم فهو الحكيم الحق لأنه يعلم أجل الأشياء بأجل العلوم إذ أجل العلوم هو العلم الأزلي القديم الذي لا يتصور زواله ، المطابق للمعلوم مطابقة لا يتطرق إليها خفاء ولا شبهة ولا يتصور ذلك إلا في علم الله اهـ .

وسيجيء الكلام على الحكمة عند قوله تعالى يؤتي الحكمة من يشاء . و ( أنت ) في إنك أنت العليم الحكيم ضمير فصل ، وتوسيطه من صيغ القصر ، فالمعنى قصر العلم والحكمة على الله قصر قلب لردهم اعتقادهم أنفسهم أنهم على جانب من علم وحكمة حين راجعوا بقولهم : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ) أو تنزيلهم منزلة من يعتقد ذلك على الاحتمالين المتقدمين ، أو هو قصر حقيقي ادعائي مراد منه قصر كمال العلم والحكمة عليه تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية