الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين

الفاء للترتيب والتسبب على قوله : إنك من الصاغرين - ثم قوله - إنك من المنظرين .

فقد دل مضمون ذينك الكلامين أن الله خلق في نفس إبليس مقدرة على إغواء الناس بقوله : إنك من الصاغرين وإنه جعله باقيا متصرفا بقواه الشريرة إلى يوم البعث ، فأحس إبليس أنه سيكون داعية إلى الضلال والكفر ، بجبلة قلبه الله إليها قلبا وهو من المسخ النفساني ، وإنه فاعل ذلك لا محالة مع علمه بأن ما يصدر عنه هو ضلال وفساد ، فصدور ذلك منه كصدور النهش من الحية ، وكتحرك الأجفان عند مرور شيء على العين ، وإن كان صاحب العين لا يريد تحريكهما .

والباء في قوله : " فبما أغويتني " سببية وهي ظرف مستقر واقع موقع الحال من فاعل لأقعدن ، أي أقسم لأقعدن لهم حال كون ذلك مني بسبب إغوائك إياي . واللام في لأقعدن لام القسم : قصد تأكيد حصول ذلك وتحقيق العزم عليه .

[ ص: 47 ] وقدم المجرور على عامله لإفادة معنى التعليل ، وهو قريب من الشرط فلذلك استحق التقديم فإن المجرور إذا قدم قد يفيد معنى قريبا من الشرطية ، كما في قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - : كما تكونوا يولى عليكم في رواية جزم تكونوا مع عدم معاملة عامله معاملة جواب الشرط بعلامة الجزم فلم يرو يولى إلا بالألف في آخره على عدم اعتبار الجزم . وذلك يحصل من الاهتمام بالمتعلق ، إذ كان هو السبب في حصول المتعلق به ، فالتقديم للاهتمام ، ولذلك لم يكن هذا التقديم منافسا لتصدير لام القسم في جملتها ، على أنا لا نلتزم ذلك فقد خولف في كثير من كلام العرب . وما مصدرية والقعود كناية عن الملازمة كما في قول النابغة : قعودا لدى أبياتهم يثمدونهم رمى الله في تلك الأكف الكوانع أي ملازمين أبياتا لغيرهم يريد الجلوس ، إذ قد يكونون يسألون واقفين ، وماشين ، ووجه الكناية هو أن ملازمة المكان تستلزم الإعياء من الوقوف عنده ، فيقعد الملازم طلبا للراحة ، ومن ثم أطلق على المستجير اسم القعيد ، ومن إطلاق القعيد على الملازم قوله تعالى : إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد أي ملازم إذ الملك لا يوصف بقعود ولا قيام .

ولما ضمن فعل : لأقعدن معنى الملازمة انتصب " صراطك " على المفعولية . أو على تقدير فعل تضمنه معنى لأقعدن تقديره : فامنعن صراطك أو فأقطعن عنهم صراطك ، واللام في لهم للأجل كقوله : واقعدوا لهم كل مرصد .

وإضافة الصراط إلى اسم الجلالة على تقدير الكاف أي الصراط الذي هو لك أي الذي جعلته طريقا لك ، والطريق لله هو العمل الذي يحصل به ما يرضي الله بامتثال أمره ، وهو فعل الخيرات ، وترك السيئات ، فالكلام تمثيل هيئة العازمين على فعل الخير ، وعزمهم عليه ، وتعرض الشيطان لهم بالمنع من فعله ، بهيئة الساعي في طريق إلى مقصد ينفعه وسعيه إذا اعترضه في طريقه قاطع طريق منعه من المرور فيه .

[ ص: 48 ] والضمير في لهم ضمير الإنس الذين دل عليهم مقام المحاورة ، التي اختصرت هنا اختصارا دعا إليه الاقتصار على المقصود منها ، وهو الامتنان بنعمة الخلق ، والتحذير من كيد عدو الجنس ، فتفصيل المحاورة مشعر بأن الله لما خلق آدم خاطب أهل الملأ الأعلى بأنه خلقه ليعمر به وبنسله الأرض ، كما أنبأ بذلك قوله تعالى : وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ، فالأرض مخلوقة يومئذ ، وخلق الله آدم ليعمرها بذريته وعلم إبليس ذلك من إخبار الله تعالى الملائكة ، فحكى الله من كلامه ما به الحاجة هنا : وهو قوله لأقعدن لهم صراطك المستقيم الآية وقد دلت آية سورة الحجر على أن إبليس ذكر في محاورته ما دل على أنه يريد إغواء أهل الأرض في قوله تعالى : قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين فإن كان آدم قد خلق في الجنة في السماء ثم أهبط إلى الأرض فإن علم إبليس بأن آدم يصير إلى الأرض قد حصل من إخبار الله تعالى بأن يجعله في الأرض خليفة ، فعلم أنه صائر إلى الأرض بعد حين ، وإن كان آدم قد خلق في جنة من جنات الأرض فالأمر ظاهر ، وتقدم ذلك في سورة البقرة .

وهذا الكلام يدل على أن إبليس علم أن الله خلق البشر للصلاح والنفع ، وأنه أودع فيهم معرفة الكمال ، وأعانهم على بلوغه بالإرشاد ، فلذلك سميت أعمال الخير ، في حكاية كلام إبليس ، صراطا مستقيما ، وإضافته إلى ضمير الجلالة ، لأن الله دعا إليه وأراد من الناس سلوكه ، ولذلك أيضا ألزم لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم .

وبهذا الاعتبار كان إبليس عدوا لبني آدم ، لأنه يطلب منهم ما لم يخلقوا لأجله وما هو مناف للفطرة التي فطر الله عليها البشر ، فالعداوة متأصلة وجبلية بين طبع الشيطان وفطرة الإنسان السالمة من التغيير ، وذلك ما أفصح عنه الجعل الإلهي المشار إليه بقوله : بعضكم لبعض عدو ، [ ص: 49 ] وبه سيتضح كيف انقلبت العداوة ولاية بين الشياطين وبين البشر الذين استحبوا الضلال والكفر على الإيمان والصلاح . وجملة : " ثم لآتينهم " ثم فيها للترتيب الرتبي ، وهو التدرج في الأخبار إلى خبر أهم لأن مضمون الجملة المعطوفة أوقع في غرض الكلام من مضمون الجملة المعطوف عليها ، لأن الجملة الأولى أفادت الترصد للبشر بالإغواء ، والجملة المعطوفة أفادت التهجم عليهم بشتى الوسائل .

وكما ضرب المثل لهيئة الحرص على الإغواء بالقعود على الطريق ، وكذلك مثلت هيئة التوسل إلى الإغواء بكل وسيلة بهيئة الباحث الحريص على أخذ العدو إذ يأتيه من كل جهة حتى يصادف الجهة التي يتمكن فيها من أخذه ، فهو يأتيه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله حتى تخور قوة مدافعته ، فالكلام تمثيل ، وليس للشيطان مسلك للإنسان إلا من نفسه وعقله بإلقاء الوسوسة في نفسه ، وليست الجهات الأربع المذكورة في الآية بحقيقة ، ولكنها مجاز تمثيلي بما هو متعارف في محاولة الناس ومخاتلتهم ، ولذلك لم يذكر في الآية الإتيان من فوقهم ومن تحتهم إذ ليس ذلك من شأن الناس في المخاتلة ولا المهاجمة .

وعلق " بين أيديهم " و " خلفهم " بحرف " من " وعلق " أيمانهم " و " شمائلهم " بحرف " عن " جريا على ما هو شائع في لسان العرب في تعدية الأفعال إلى أسماء الجهات ، وأصل " عن " في قولهم عن يمينه وعن شماله المجاوزة : أي من جهة يمينه مجاوزا له ومجافيا له ، ثم شاع ذلك حتى صارت عن بمعنى على ، فكما يقولون : جلس على يمينه يقولون : جلس عن يمينه ، وكذلك من في قولهم من بين يديه أصلها الابتداء يقال : أتاه من بين يديه ، أي من المكان المواجه له ، ثم شاع ذلك حتى صارت " من " بمنزلة الحرف الزائد يجر بها الظرف فلذلك جرت بها الظروف الملازمة للظرفية مثل عند ، لأن [ ص: 50 ] وجود " من " كالعدم ، وقد قال الحريري في المقامة النحوية : ما منصوب على الظرف لا يخفضه سوى حرف ، فهي هنا زائدة ويجوز اعتبارها ابتدائية .

والأيمان جمع يمين ، واليمين هنا جانب من جسم الإنسان يكون من جهة القطب الجنوبي إذا استقبل المرء مشرق الشمس ، تعارفه الناس ، فشاعت معرفته ولا يشعرون بتطبيق الضابط الذي ذكرناه ، فاليمين جهة يتعرف بها مواقع الأعضاء من البدن يقال : العين اليمنى واليد اليمنى ونحو ذلك . وتتعرف بها مواقع من غيرها قال تعالى : قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين . وقال امرؤ القيس :

    على قطن بالشيم أيمن صوبه



لذلك قال أيمة اللغة سميت بلاد اليمن يمنا لأنه عن يمين الكعبة ، فاعتبروا الكعبة كشخص مستقبل مشرق الشمس فالركن اليماني منها وهو زاوية الجدار الذي فيه الحجر الأسود باعتبار اليد اليمنى من الإنسان ، ولا يدرى أصل اشتقاق كلمة " يمين " ، ولا أن اليمن أصل لها أو فرع عنها ، والأيمان جمع قياسي .

والشمائل جمع شمال وهي الجهة التي تكون شمالا لمستقبل مشرق الشمس ، وهو جمع على غير قياس .

وقوله : ولا تجد أكثرهم شاكرين زيادة في بيان قوة إضلاله بحيث لا يفلت من الوقوع في حبائله إلا القليل من الناس ، وقد علم ذلك بعلم الحدس وترتيب المسببات .

وكني بنفي الشكر عن الكفر إذ لا واسطة بينهما كما قال تعالى : واشكروا لي ولا تكفرون ووجه هذه الكناية ، إن كانت محكية كما صدرت من كلام إبليس ، أنه أراد الأدب مع الله تعالى فلم يصرح بين يديه بكفر أتباعه المقتضي أنه يأمرهم بالكفر ، وإن كانت من كلام الله [ ص: 51 ] تعالى ففيها تنبيه على أن المشركين بالله قد أتوا أمرا شنيعا إذ لم يشكروا نعمه الجمة عليهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية