الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي ) : مناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه لما جرى ذكر الكعبة والقبلة ، وأن اليهود عيروا المؤمنين بتوجههم إلى الكعبة وترك بيت المقدس ، كما قال : " ما ولاهم عن قبلتهم " ، ذكر حديث إبراهيم وما ابتلاه به الله ، واستطرد إلى ذكر البيت وكيفية بنائه ، وأنهم لما كانوا من نسل إبراهيم ، كان ينبغي أن يكونوا أكثر الناس اتباعا لشرعه ، واقتفاء لآثاره . فكان تعظيم البيت لازما لهم ، فنبه الله بذلك على سوء اعتمادهم ، وكثرة مخالفتهم ، وخروجهم عن سنن من ينبغي اتباعه من آبائهم ، وأنهم وإن كانوا من نسله ، لا ينالون لظلمهم شيئا من عهده ، وإذ العامل فيه على ما ذكروا محذوف ، وقدروه اذكر ، أي : اذكرا إذ ابتلي إبراهيم ، فيكون مفعولا به ، أو إذ ابتلاه كان كيت وكيت . وقد تقدم الكلام في ذلك عند قوله تعالى : " وإذ قال ربك للملائكة " ، والاختيار أن يكون العامل فيه ملفوظا به ، وهو " قال إني جاعلك " . والابتلاء : الاختبار ، ومعناه أنه كلفه بأوامر ونواه . والباري تعالى عالم بما يكون منه . وقيل : معناه أمر . قال الزمخشري : واختبار الله عبده مجاز عن تمكينه من اختيار أحد الأمرين : ما يريد الله ، وما يشتهيه العبد ، كأنه امتحنه ما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك . انتهى كلامه ، وفيه دسيسة الاعتزال . وفي ري الظمآن : الابتلاء إظهار الفعل ، والاختبار طلب الخبر ، وهما متلازمان .

وإبراهيم هنا ، وفي جميع القرآن هو الجد الحادي والثلاثون لنبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو خليل الله ، ابن تارح بن ناحور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن عابر ، وهو هود النبي - عليه السلام - ، ومولده بأرض الأهواز . وقيل : بكوثى ، وقيل : ببابل ، وقيل : بنجران ، ونقله أبوه إلى بابل أرض نمروذ بن كنعان . وقد تقدم ذكر اللغات الست في لفظه . وقرأ الجمهور إبراهيم بالألف والياء . وقرأ ابن عامر بخلاف ، عن ابن ذكوان في البقرة بألفين . زاد هشام أنه قرأ كذلك في : إبراهيم ، والنحل ، ومريم ، والشورى ، والذاريات ، والنجم ، والحديد ، وأول الممتحنة ، وثلاث آخر النساء ، وأخرى التوبة ، وآخر الأنعام ، والعنكبوت . وقرأ المفضل : إبراهام بألفين ، إلا في المودة والأعلى . وقرأ ابن الزبير : إبراهام ، وقرأ أبو بكرة : إبراهم بألف وحذف الياء وكسر الهاء . وقرأ الجمهور : بنصب إبراهيم ورفع ربه . وقرأ ابن عباس ، وأبو الشعثاء [ ص: 375 ] وأبو حنيفة برفع إبراهيم ونصب ربه . فقراءة الجمهور على أن الفاعل هو الرب ، وتقدم معنى ابتلائه إياه . قال ابن عطية : وقدم المفعول للاهتمام بمن وقع الابتلاء ، إذ معلوم أن الله تعالى هو المبتلي . وإيصال ضمير المفعول بالفاعل موجب لتقديم المفعول . انتهى كلامه ، وفيه بعض تلخيص . وكونه مما يجب فيه تقديم الفاعل هو قول الجمهور . وقد جاء في كلام العرب مثل : ضرب غلامه زيدا ، وقال : وقاس عليه بعض النحويين ، وتأول بعضه الجمهور ، أو حمله على الشذوذ . وقد طول الزمخشري في هذه المسألة بما يوقف عليه من كلامه في الكشاف ، وليست من المسائل التي يطول فيها لشهرتها في العربية . وقرأ ابن عباس : معناها أنه دعا ربه بكلمات من الدعاء يتطلب فيها الإجابة ، فأطلق على ذلك ابتلاء على سبيل المجاز لأن في الدعاء طلب استكشاف لما تجري به المقادير على الإنسان . والكلمات لم تبين في القرآن ما هي ، ولا في الحديث الصحيح ، وللمفسرين فيها أقوال : الأول : روى طاوس ، عن ابن عباس أنها العشرة التي من الفطرة : المضمضة ، والاستنشاق ، وقص الشارب ، وإعفاء اللحية ، والفرق ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظفار ، وحلق العانة ، والاستطابة ، والختان ، وهذا قول قتادة . الثاني عشر : وهي : حلق العانة ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظفار ، وقص الشارب ، وغسل يوم الجمعة ، والطواف بالبيت ، والسعي ، ورمي الجمار ، والإفاضة . وروي هذا عن ابن عباس أيضا . الثالث : ثلاثون سهما في الإسلام ، لم يتم ذلك أحد إلا إبراهيم ، وهي عشر في براءة ( التائبون ) الآية ، وعشر في الأحزاب ( إن المسلمين ) الآية ، وعشر في ( قد أفلح ) وفي المعارج . وروي هذا عن ابن عباس أيضا . الرابع : هي الخصال الست التي امتحن بها الكوكب ، والقمر ، والشمس ، والنار ، والهجرة ، والختان . وقيل : بدل الهجرة الذبح لولده ، قاله الحسن . الخامس : مناسك الحج ، رواه قتادة عن ابن عباس . السادس : كل مسألة سألها إبراهيم في القرآن مثل : ( رب اجعل هذا البلد آمنا ) ، قاله مقاتل . السابع : هي قول : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . وقوله : " ربنا تقبل منا " ، قاله ابن جبير . الثامن : هو قوله تعالى : ( وحاجه قومه ) ، قاله يمان . التاسع : هي قوله : ( الذي خلقني فهو يهدين ) الآيات ، قاله أبو روق . العاشر : هي ما ابتلاه به في ماله وولده ونفسه ، فسلم ماله للضيفان ، وولده للقربان ، ونفسه للنيران ، وقلبه للرحمن ، فاتخذه الله خليلا . الحادي عشر : هو أن الله أوحى إليه أن تطهر فتمضمض ، ثم أن تطهر فاستنشق ، ثم أن تطهر فاستاك ، ثم أن تطهر فأخذ من شاربه ، ثم أن تطهر ففرق شعره ، ثم أن تطهر فاستنجى ، ثم أن تطهر فحلق عانته ، ثم أن تطهر فنتف إبطه ، ثم أن تطهر فقلم أظفاره ، ثم أن تطهر فأقبل على جسده ينظر ماذا يصنع ، فاختتن بعد عشرين ومائة سنة . وفي البخاري أنه اختتن وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم ، وأوحى الله إليه ( إني جاعلك للناس إماما ) ، يأتمون بك في هذه الخصال ويقتدي بك الصالحون . فإن صحت تلك الرواية ، فالتأويل أنه اختتن بعد عشرين ومائة سنة من ميلاده ، وابن ثمانين سنة من وقت نبوته ، فيتفق التاريخان ، والله أعلم . الثاني عشر : هي عشرة : شهادة أن لا إله إلا الله ، وهي الملة والصلاة ، وهي الفطرة والزكاة ، وهي الطهرة والصوم ، وهو الجنة والحج ، وهو الشعيرة والغزو ، وهو النصرة والطاعة ، وهي العصمة والجماعة ، وهي الألفة والأمر بالمعروف ، وهو الوفاء والنهي عن المنكر ، وهو الحجة . الثالث عشر : هي : تجعلني إماما ، وتجعل البيت مثابة وأمنا ، وترينا مناسكنا ، وتتوب علينا ، وهذا البلد آمنا ، وترزق أهله من الثمرات . فأجابه الله في ذلك بما سأله ، وهذا معنى قول مجاهد والضحاك . وهذه الأقوال ينبغي أن تحمل على أن كل قائل منها ذكر طائفة مما ابتلى الله به إبراهيم ، إذ كلها ابتلاه بها ، ولا يحمل ذلك على الحصر في [ ص: 376 ] العدد ، ولا على التعيين ، لئلا يؤدي ذلك إلى التناقض . وهذه الأشياء التي فسر بها الكلمات ، إن كانت أقوالا ، فذلك ظاهر في تسميتها كلمات ، وإن كانت أفعالا ، فيكون إطلاق الكلمات عليها مجازا ; لأن التكاليف الفعلية صدرت عن الأوامر ، والأوامر كلمات . سميت الذات كلمة لبروزها عن كلمة كن . قال تعالى : ( وكلمته ألقاها إلى مريم ) . وقد تكلم بعض المفسرين في أحكام ما شرحت به الكلمات من : المضمضة ، والاستنشاق ، وقص الشارب ، وإعفاء اللحية ، والفرق ، والسدل ، والسواك ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، وتقليم الأظفار ، والاستنجاء ، والختان ، والشيب وتغييره ، والثريد ، والضيافة . وهذا يبحث فيه في علم الفقه ، وليس كتابنا موضوعا لذلك ، فلذلك تركنا الكلام على ذلك .

فأتمهن : الضمير المستكن في فأتمهن يظهر أنه يعود إلى الله تعالى ; لأنه هو المسند إليه الفعل قبله على طريق الفاعلية . فأتمهن معطوف على ابتلى ، فالمناسب التطابق في الضمير . وعلى هذا فالمعنى : أي أكملهن له من غير نقص ، أو بينهن ، والبيان به يتم المعنى ويظهر ، أو يسر له العمل بهن وقواه على إتمامهن ، أو أتم له أجورهن ، أو أدامهن سنة فيه وفي عقبه إلى يوم الدين ، أقوال خمسة . ويحتمل أن يعود الضمير المستكن على إبراهيم . فالمعنى على هذا أدامهن ، أو أقام بهن ، قاله الضحاك ; أو عمل بهن ، قاله يمان ; أو وفى بهن ، قاله الربيع ، أو أداهن ، قاله قتادة . خمسة أقوال تقرب من الترادف ; إذ محصولها أنه أتى بهن على الوجه المأمور به . واختلفوا في هذا الابتلاء ، هل كان قبل نبوته أو بعدها ؟ فقال القاضي : كان قبل النبوة ; لأنه نبه على أن قيامه بهن كالسبب ; لأنه جعله إماما ، والسبب مقدم على المسبب ، فوجب كون الابتلاء مقدما في الوجود على صيرورته إماما . وقال آخرون : إنه بعد النبوة ; لأنه لا يعلم كونه مكلفا بتلك التكاليف إلا من الوحي ، فلا بد من تقدم الوحي على معرفته بكونه كذلك . أجاب القاضي : بأنه يحتمل أنه أوحى إليه على لسان جبريل بهذه التكاليف الشاقة ، فلما تمم ذلك ، جعله نبيا مبعوثا إلى الخلق .

( قال إني جاعلك ) : تقدم أن الاختيار في قال : أنها عاملة في إذ ، وإذا جعلنا العامل في إذ محذوفا ، كانت قال استئنافا ، فكأنه قيل : فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات ؟ فقيل : ( قال إني جاعلك للناس إماما ) . وعلى اختيار أن يكون " قال " هو العامل في إذ ، يكون " قال " جملة معطوفة على ما قبلها ، أي وقال إني جاعلك للناس إماما ; إذ ابتلاه ، ويجوز أن يكون بيانا لقوله : ابتلى ، وتفسيرا له . للناس : يجوز أن يراد بهم أمته الذين اتبعوه ، ويجوز أن يراد به جميع المؤمنين من الأمم ، ويكون ذلك في عقائد التوحيد وفيما وافق من شرائعهم . وللناس : في موضع الحال ; لأنه نعت نكرة تقدم عليها ، التقدير : إماما كائنا للناس ، قالوا : ويحتمل أن يكون متعلقا ب " جاعلك " ، أي لأجل الناس . وجاعل هنا بمعنى مصير ، فيتعدى لاثنين ، الأول : الكاف الذي أضيف إليها اسم الفاعل ، والثاني : إماما . قيل : قال أهل التحقيق : والمراد بالإمام هنا : النبي ، أي : صاحب شرع متبع ; لأنه لو كان تبعا لرسول لكان مأموما لذلك الرسول لا إماما له . ولأن لفظ الإمام يدل على أنه إمام في كل شيء ، ومن يكون كذلك لا يكون إلا نبيا ; ولأن الأنبياء من حيث يجب على الخلق اتباعهم هم أئمة ، قال تعالى : ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا ) . والخلفاء أيضا أئمة ، وكذلك القضاة والفقهاء والمصلي بالناس ، ومن يؤتم به في الباطل . قال تعالى : ( وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ) . فلما تناول الاسم هؤلاء كلهم وجب أن يحمل هنا على أشرف المراتب وأعلاها ; لأنه ذكره في معرض الامتنان ، فلا بد أن يكون أعظم نعمة ، ولا شيء أعظم من النبوة .

قال ومن ذريتي ، قال الزمخشري : عطف على الكاف ، كأنه قال : وجاعل بعض ذريتي ، كما يقال لك : سأكرمك ، فتقول : وزيدا . انتهى كلامه . ولا يصح العطف على الكاف ; لأنها مجرورة ، فالعطف عليها لا يكون إلا بإعادة الجار ، ولم [ ص: 377 ] يعدو ، لأن " من " لا يمكن تقدير الجار مضافا إليها ، لأنها حرف ، فتقديرها بأنها مرادفة لبعض حتى تقدر جاعلا مضافا إليها لا يصح ، ولا يصح أن تكون تقدير العطف من باب العطف على موضع الكاف ; لأنه نصب ، فيجعل " من " في موضع نصب ; لأن هذا ليس مما يعطف فيه على الموضع ، على مذهب سيبويه ; لفوات المحرز ، وليس نظير : سأكرمك ، فتقول : وزيدا لأن الكاف هنا في موضع نصب . والذي يقتضيه المعنى أن يكون من ذريتي متعلقا بمحذوف ، التقدير : واجعل من ذريتي إماما ; لأن إبراهيم فهم من قوله " إني جاعلك للناس إماما " الاختصاص ، فسأل الله تعالى أن يجعل من ذريته إماما . وقرأ زيد بن ثابت : ذريتي بالكسر في الذال . وقرأ أبو جعفر بفتحها . وقرأ الجمهور بالضم ، وذكرنا أنها لغات فيها ، ومن أي شيء اشتقت حين تكلمنا على المفردات .

التالي السابق


الخدمات العلمية