الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فلما قضينا عليه الموت ) أي أنفذنا عليه ما قضينا عليه في الأزل من الموت ، وأخرجناه إلى حيز الوجود . وجواب لما النفي الموجب ، وهذا يدل على أن لما حرف لا ظرف ، خلافا لمن زعم ذلك ; لأنه لو كان ظرفا لكان الجواب هو العامل وما دخلت عليه ، وهي نافية ، ولا يعمل ما قبلها فيما بعدها ، وقد مضى لنا نظير هذا في يوسف في قوله ( ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء ) . فالضمير في ( دلهم ) عائد على الجن الذين كانوا يعملون له ، وكان سليمان قد أمر الجن ببناء صرح له ، فبنوه له . ودخله مختليا ليصفو له يوم من الدهر من الكدر ، فدخل عليه شاب فقال له : كيف دخلت علي بغير إذن ؟ فقال : إنما دخلت بإذن ، قال : ومن أذن لك ؟ قال : رب هذا الصرح . فعلم أنه ملك الموت أتى بقبض روحه ، فقال : سبحان الله ، هذا اليوم الذي طلبت فيه الصفا ، فقال له : طلبت ما لم يخلق ، فاستوثق من الاتكاء على العصا ، فقبض روحه ، وبقيت الجن تعمل على عادتها . وكان سليمان قصد تعمية موته ; لأنه كان بقي من تمام بناء المسجد عمل سنة ، فسأل الله تمامها على يد الإنس والجن ، وكان يخلو بنفسه الشهرين والثلاثة ، فكانوا يقولون : إنه يتحنث . وقيل : إن ملك الموت أعلمه أنه بقي من حياته ساعة ، فدعا الشياطين فبنوا له الصرح ، وقام يصلي متكئا على عصاه ، فقبض روحه وهو متكئ عليها . وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه ، فلا ينظر أحد منهم إليه في صلاته إلا احترق ، فمر واحد منهم فلم يسمع صوته ، ثم رجع فلم يسمع ، فنظر فإذا هو قد خر ميتا ، وكان عمره ثلاثا وخمسين سنة . ملك بعد موت أبيه وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وكان أبوه قد أسس بنيان المسجد موضع بساط موسى ، فمات قبل أن يتمه ، ووصى به ابنه ، فأمر الشياطين بإتمامه ، ومات قبل تمامه .

و ( دابة الأرض تأكل ) هي سوسة الخشب ، وهي الأرضة . وقيل : ليست سوسة الخشب ; لأن السوسة ليست من دواب الأرض ، بل هذه حيوان من الأرض شأنه أن يأكل الخشب ، وذلك موجود . وقالت فرقة ، منها أبو حاتم : الأرض هنا مصدر أرضت الأبواب والخشب أكلتها الأرضة فكأنه قال : دابة الأكل الذي هو بتلك الصورة . وإذا كان الأرض مصدرا ، كان فعله أرضت الدابة الخشب تأرضه أرضا فأرض بكسر الراء نحو : جدعت أنفه فجدع . ويقال : إنه مصدر لفعل مفتوح العين . قراءة ابن عباس والعباس بن الفضل : ( الأرض ) بفتح الراء ; لأن مصدر فعل المطاوع لفعل يكون على فعل نحو : جدع أنفه جدعا وأكلت الأسنان أكلا ، مطاوع أكلت . وقيل : الأرض بفتح الراء جمع أرضة ، وهو من إضافة العام إلى الخاص ; لأن الدابة أعم من الأرض . وقراءة الجمهور بسكون الراء ، فالمتبادر أنها الأرض المعروفة ، وتقدم أنها مصدر لأرضت الدابة الخشب . وتأكل حال ، أي أكلت منسأته ، وهي حال مصاحبة . وتقدم أن المنسأة هي العصا ، وكانت فيما روي من خرنوب ، وذلك أنه كان يتعبد في بيت المقدس ، فتنبت له في محرابه كل سنة شجرة تخبره بمنافعها فيأمر فتقلع ، ويتصرف في منافعها ، وتغرس لتتناسل . فلما قرب موته ، نبتت شجرة وسألها فقالت : أنا الخرنوب ، خرجت لخراب ملكك ، فعرف أنه حضر أجله ، فاستعد واتخذ منها عصا واستدعى بزاد سنة ، والجن تتوهم أنه يتغذى بالليل . وروي أن سليمان كان في قبة ، وأوصى بعض أهله بكتمان موته عن الإنس والجن سنة ليتم البناء الذي بدئ في زمن داود ، فلما مضى لموته [ ص: 267 ] سنة ، خر عن العصا ونظر إلى مقدار ما تأكله الأرضة يوما وقيس عليه ، فعلم أنها أكلت العصا منه سنة . وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وجماعة : منساته بألف ، وأصله منسأته ، أبدلت الهمزة ألفا بدلا غير قياسي . وقال أبو عمر : وأنا لا أهمزها لأني لا أعرف لها اشتقاقا ، فإن كانت مما لا تهمز ، فقد احتطت ، وإن كانت تهمز فقد يجوز لي ترك الهمزة فيما يهمز . وقرأ ابن ذكوان وجماعة منهم بكار والوليدان بن عتبة وابن مسلم : منسأته ، بهمزة ساكنة ، وهو من تسكين التحريك تخفيفا ، وليس بقياس . وضعف النحاة هذه القراءة ; لأنه يلزم فيها أن يكون ما قبل التأنيث ساكنا غير الفاء . وقيل : قياسها التخفيف بين بين ، والراوي لم يضبط ، وأنشد هارون بن موسى الأخفش الدمشقي شاهدا على سكون هذه القراءة قول الراجز :


صريع خمر قام من وكأته كقومة الشيخ إلى منسأته



وقرأ باقي السبعة بالهمز مفتوحة ، وقرئ بفتح الميم وتخفيف الهمزة قلبا وحذفا ، وعلى وزن مفعالة : ( منساءة ) . وقرأت فرقة ، منهم عمر بن ثابت عن ابن جبير : مفصولة حرف جر وسأته بجر التاء ، قيل : ومعناه من عصاه ، يقال لها : ساة القوس وسيتها معا ، وهي يدها العليا والسفلى ، سميت العصا ساة القوس على الاستعارة ، ولا سيما إن صح النقل أنه اتخذها من شجر الخروب قبل موته ، فيكون حين اتكأ عليها ، وهي كما قطعت من شجرة خضراء ، قد اعوجت حتى صارت كالقوس . ألا ترى أنك إذا اتكأت على غصن أخضر كيف يعوج حتى يكاد يلتقي طرفاه ؟ فيها لغتان : ساة وسية ، كما يقال : قحة وقحاة ، والمحذوف من ساة وسية .

( فلما خر ) أي سقط عن العصا ميتا ، والظاهر أن الضمير في خر عائد على سليمان . وقيل : إنه لم يمت إلى أن وجد في سفر مضطجعا ، ولكنه كان في بيت مبني عليه ، وأكلت الأرضة عتبة الباب حتى خر الباب ، فعلم موته . وقال ابن عباس : مات في متعبده على فراشه ، وقد أغلق الباب على نفسه فأكلت الأرضة المنسأة ، أي عتبة الباب فلما خر أي الباب . انتهى .

وهذا فيه ضعف ; لأنه لو كانت المنسأة هي العتبة ، وعاد الضمير عليها ، لكان التركيب : فلما خرت بتاء التأنيث ، ولا يجيء حذف مثل هذه التاء إلا في ضرورة الشعر ، ولا يكون من ذكر المعنى على معنى العود لأنه قليل . وقرأ الجمهور : تبينت مبنيا للفاعل ، فاحتمل أن يكون من تبين بمعنى بان ، أي ظهرت الجن ، والجن فاعل ، وأن وما بعدها بدل من الجن . كما تقول : تبين زيد جهله ، أي ظهر جهل زيد ، فالمعنى : ظهر للناس جهل الجن علم الغيب ، وأن ما ادعوه من ذلك ليس بصحيح . واحتمل أن يكون من تبين بمعنى علم وأدرك ، والجن هنا خدم الجن ، وضعفتهم ( أن لو كانوا ) أي لو كان رؤساؤهم وكبراؤهم يعلمون الغيب ، قاله قتادة . وقال الزمخشري : أو علم المدعون علم الغيب منهم عجزهم ، وأنهم لا يعلمون الغيب ، وإن كانوا عالمين قبل ذلك بحالهم ، وإنما أريد بهم التهكم كما يتهكم بمدعي الباطل إذا دحضت حجته وظهر إبطاله ، كقولك : هل تبينت أنك مبطل وأنت لا تعلم أنه لم يزل لذلك متبينا ؟ انتهى . ويجئ تبين بمعنى بان وظهر لازما ، وبمعنى علم متعديا موجود في كلام العرب . قال الشاعر :


تبين لي أن القماءة ذلة     وأن أعزاء الرجال طيالها



وقال آخر :


أفاطم إني ميت فتبيني     ولا تجزعي كل الأنام يموت



أي : فتبيني ذلك أي اعلميه . وقال ابن عطية : ذهب سيبويه إلى أن : ( أن ) لا موضع لها من الإعراب ، إنما هي موزونة ، نحو أن ما ينزل منزلة القسم من الفعل الذي معناه التحقيق واليقين ; لأن هذه الأفعال [ ص: 268 ] التي هي تحققت وتيقنت وعلمت ونحوها تحل محل القسم . فما لبثوا : جواب القسم لا جواب لو . وعلى الأقوال الأول جواب لو . وفي كتاب النحاس إشارة إلى أنه يقرأ ( تبينت الجن ) بنصب الجن ، أي تبينت الإنس الجن ، والمعنى : أن الجن لو كانت تعلم الغيب ما خفى عليها موته ، أي موتسليمان . وقد ظهر أنه خفي عليها بدوامها في الخدمة والضعة وهو ميت . وقرأ ابن عباس - فيما ذكر ابن خالويه ويعقوب بخلاف عنه : تبينت مبنيا للمفعول ، وعن ابن عباس ، وابن مسعود ، وأبي ، وعلي بن الحسن ، والضحاك قراءة في هذا الموضع مخالفة لسواد المصحف ولما روي عنهم ، ذكرها المفسرون ، أضرب عن ذكرها صفحا على عادتنا في ترك نقل الشاذ الذي يخالف للسواد مخالفة كثيرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية