الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة ) الآية ، حدث الحارث بن ضرار قال : قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فدعاني إلى الإسلام ، فأسلمت ، وإلى الزكاة فأقررت بها ، فقلت : أرجع إلى قومي وأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة ، فمن أجابني جمعت زكاته ، فترسل من يأتيك بما جمعت . فلما جمع ممن استجاب له ، وبلغ الوقت الذي أراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يبعث إليه ، واحتبس عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال لسروات قومه : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقت لي وقتا إلى من يقبض الزكاة ، وليس من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخلف ، ولا أرى حبس الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا من سخطه . فانطلقوا بها إليه ، وكان عليه السلام بعث الوليد بن الحارث ، ففرق ، فرجع فقال : منعني الحارث الزكاة وأراد قتلي ، فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البعث إلى الحارث ، فاستقبل الحارث البعث وقد فصل من المدينة ، فقالوا : هذا الحارث ، إلى من بعثتم ؟ قالوا : إليك قال : ولم ؟ فقالوا : بعث إليك الوليد ، فرجع وزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله ، قال : لا والذي بعث محمدا بالحق ما رأيت رسولك ، ولا أتاني ، وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسولك خشية أن يكون سخطة من الله ورسوله ، قال : فنزلت هذه الآية .

وفاسق وبنبأ مطلقان ، فيتناول اللفظ كل واحد على جهة البدل ، وتقدم قراءة فتبينوا و " فتثبتوا " في سورة النساء ، وهو أمر يقتضي أن لا يعتمد على كلام الفاسق ، ولا يبنى عليه حكم . وجاء الشرط بحرف " إن " المقتضي للتعليق في الممكن ، لا بالحرف المقتضي للتحقيق ، وهو إذا ، لأن مجيء الرجل الفاسق للرسول وأصحابه بالكذب ، إنما كان على سبيل الندرة . وأمروا بالتثبت عند مجيئه لئلا يطمع في قبول ما يلقيه إليهم ، ونبأ ما يترتب على كلامه . فإذا كانوا بمثابة التبين والتثبت كف عن مجيئهم بما يريد . ( أن تصيبوا ) : مفعول له ، أي كراهة أن تصيبوا ، أو لئلا تصيبوا ، ( بجهالة ) حال ، أي جاهلين بحقيقة الأمر معتمدين على خبر الفاسق ، ( فتصبحوا ) : فتصيروا ، ( على ما فعلتم ) : من إصابة القوم بعقوبة بناء على خبر الفاسق ، ( نادمين ) : مقيمين على فرط منكم ، متمنين أنه لم يقع . ومفهوم ( إن جاءكم فاسق ) : قبول كلام غير الفاسق ، وأنه لا يتثبت عنده ، وقد يستدل به على قبول خبر الواحد العدل . وقال قتادة : لما نزلت هذه الآية ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " التثبت من الله والعجلة من الشيطان " . وقال مقلد بن سعيد : هذه الآية ترد على من قال : إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة ، لأن الله تعالى [ ص: 110 ] أمر بالتبين قبل القبول . انتهى . وليس كما ذكر ، لأنه ما أمر بالتبيين إلا عند مجيء الفاسق ، لا مجيء المسلم ، بل بشرط الفسق . والمجهول الحال يحتمل أن يكون فاسقا ، فالاحتياط لازم .

( واعلموا أن فيكم رسول الله ) : هذا توبيخ لمن يكذب للرسول عليه الصلاة والسلام ، ووعيد بالنصيحة . ولا يصدر ذلك إلا ممن هو شاك في الرسالة ، لأن الله تعالى لا يترك نبيه يعتمد على خبر الفاسق ، بل بين له ذلك . والظاهر أن قوله : ( واعلموا أن فيكم رسول الله ) كلام تام ، أمرهم بأن يعلموا أن الذي هو بين ظهرانيكم هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلا تخبروه بما لا يصح ، فإنه رسول الله يطلعه على ذلك .

ثم أخبر تعالى أن رسوله لو أطاعكم في كثير من الأمر الذي يؤدي إليه اجتهادكم وتقدمكم بين يديه ( لعنتم ) : أي لشق عليكم . وقال مقاتل : لأثمتم . وقال الزمخشري : والجملة المصدرة بلو لا تكون كلاما مستأنفا لأدائه إلى تنافر النظم ، ولكن متصلا بما قبله حالا من أحد الضميرين في فيكم المستتر المرفوع ، أو البارز المجرور ، وكلاهما مذهب سديد ، والمعنى : أن فيكم رسول الله ، وأنتم على حالة يجب عليكم تغييرها ، وهو أنكم تحاولون منه أن يعمل في الحوادث على مقتضى ما يعن لكم من رأي واستصواب فعل المطواع لغيره والتابع له فيما يرتئيه المحتذي على أمثلته ، ولو فعل ذلك ( لعنتم ) : أي لوقعتم في الجهد والهلاك .

وهذا يدل على أن بعض المؤمنين زينوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإيقاع ببني المصطلق ، وتصديق قول الوليد ، وأن نظائر ذلك من الهنات كانت تفرط منهم ، وأن بعضهم كانوا يتصونون ، ويزعهم جدهم في التقوى عن الجسارة على ذلك ، وهم الذين استثناهم بقوله : ( ولكن الله حبب إليكم الإيمان ) : أي إلى بعضكم ، ولكنه أغنت عن ذكر البعض صفتهم المفارقة لصفة غيرهم ، وهذا من إيجازات القرآن ولمحاته اللطيفة التي لا يفطن إليها إلا الخواص . وعن بعض المفسرين : هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى . انتهى ، وفيه تكثير . ولا بعد أن تكون الجملة المصدرة بلو مستأنفة لا حالا ، فلا تعلق لها بما قبلها من جهة الإعراب . وتقديم خبر أن على اسمها قصد إلى توبيخ بعض المؤمنين على ما استهجن من استتباعهم رأي الرسول - صلى الله عليه وسلم - لآرائهم ، فوجب تقديمه لانصباب الغرض إليه . وقيل : يطيعكم دون أطاعكم ، للدلالة على أنه كان في إرادتهم استمرار عملهم على ما يستصوبونه ، وأنه كلما عن لهم رأي في أمر كان معمولا عليه بدليل قوله في كثير من الأمر . وشريطة لكن مفقودة من مخالفة ما بعدها لما قبلها من حيث اللفظ ، حاصلة من حيث المعنى ، لأن الذين حبب إليهم الإيمان قد غايرت صفتهم صفة المتقدم ذكرهم فوقعت لكن في حاق موقعها من الاستدراك . انتهى ، وهو ملتقط من كلام الزمخشري .

وقال الزمخشري أيضا : ومعنى تحبيب الله وتكريهه : اللطف والإمداد بالتوفيق وسبيله الكناية ، كما سبق وكل ذي لب وراجع إلى بصيرة وذهن لا يغبا عليه أن الرجل لا يمدح بفعل غيره . وحمل الآية على ظاهرها يؤدي إلى أن يثني عليهم بفعل الله ، وقد نفى الله هذا عن الذين أنزل فيهم : ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا . انتهى ، وهي على طريق الاعتزال . وعن الحسن : حبب الإيمان بما وصف من الثناء عليه ، وكره الثلاثة بما وصف من العقاب . انتهى . ( أولئك هم الراشدون ) : التفات من الخطاب إلى الغيبة . ( فضلا من الله ونعمة ) ، قال ابن عطية : مصدر مؤكد لنفسه ، لأن ما قبله هو بمعناه ، إذ التحبيب والتزيين هو نفس الفضل . وقال الحوفي : فضلا نصب على الحال . انتهى ، ولا يظهر هذا الذي قاله . وقال أبو البقاء : مفعول له ، أو مصدر في معنى ما تقدم . وقال الزمخشري : فضلا مفعول له ، أو مصدر من غير فعله . فإن قلت : من أين جاز وقوعه مفعولا له ، والرشد فعل القوم ، والفضل فعل الله تعالى ، والشرط أن [ ص: 111 ] يتحد الفاعل ؟ قلت : لما وقع الرشد عبارة عن التحبيب والتزيين والتكريه مسندة إلى اسمه ، تقدست أسماؤه ، وصار الرشد كأنه فعله ، فجاز أن ينتصب عنه ولا ينتصب عن ( الراشدون ) ، ولكن عن الفعل المسند إلى اسم الله تعالى .

والجملة التي هي ( أولئك هم الراشدون ) اعتراض ، أو عن فعل مقدر ، كأنه قيل : جرى ذلك ، أو كان ذلك فضلا من الله . وأما كونه مصدرا من غير فعله ، فأن يوضع موضع رشدا ، لأن رشدهم فضل من الله لكونهم موفقين فيه ، والفضل والنعمة بمعنى الإفضال والإنعام . ( والله عليم ) بأحوال المؤمنين وما بينهم من التمايز والتفاضل ، ( حكيم ) حين يفضل وينعم بالتوفيق على أفاضلهم . انتهى . أما توجيهه كون فضلا مفعولا من أجله ، فهو على طريق الاعتزال . وأما تقديره أو كان ذلك فضلا ، فليس من مواضع إضمار كان ، ولذلك شرط مذكور في النحو .

التالي السابق


الخدمات العلمية