الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وذكر المفسرون في أصحاب الأخدود أقوالا فوق العشرة ، ولكل قول منها قصة طويلة كسلنا عن كتابتها في كتابنا هذا ، ومضمنها أن ناسا من الكفار خدوا أخدودا في الأرض وسجروه نارا وعرضوا المؤمنين عليها ، فمن رجع عن دينه تركوه ، ومن أصر على الإيمان أحرقوه ، وأصحاب الأخدود هم المحرقون للمؤمنين . وقال الربيع ، وأبو العالية ، وابن إسحاق : بعث الله على المؤمنين ريحا فقبضت أرواحهم أو نحو هذا ، وخرجت النار فأحرقت الكافرين الذين كانوا على حافتي الأخدود ، فعلى هذا يكون القتل حقيقة لا بمعنى اللعن ، ويكون خبرا عن ما فعله الله بالكفار والذين أرادوا أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم . وقول هؤلاء مخالف لقول الجمهور ولما دل عليه القصص الذي ذكروه . وقرأ الجمهور : ( النار ) بالجر ، وهو بدل اشتمال ، أو بدل كل من كل على تقدير محذوف ، أي أخدود النار . وقرأ قوم : ( النار ) بالرفع . قيل : وعلى معنى قتلهم ، ويكون أصحاب الأخدود إذ ذاك المؤمنين ، وقتل على حقيقته . وقرأ الحسن ، وأبو رجاء ، وأبو حيوة ، وعيسى : ( الوقود ) بضم الواو وهو مصدر ، والجمهور : بفتحها ، وهو ما يوقد به . وقد حكى [ ص: 451 ] سيبويه أنه بالفتح أيضا مصدر كالضم ، والظاهر أن الضمير في ( إذ هم ) عائد على الذين يحرقون المؤمنين ، وكذلك في ( وهم ) على قول الربيع يعود على الكافرين ، ويكون هم أيضا عائدا عليهم ، ويكون معنى ( على ما يفعلون ) ما يريدون من فعلهم بالمؤمنين . وقيل : أصحاب الأخدود محرق ، وتم الكلام عند قوله : ( ذات الوقود ) ويكون المراد بقوله : ( وهم ) قريش الذين كانوا يفتنون المؤمنين والمؤمنات ، و " إذ " العامل فيه " قتل " ، أي لعنوا وقعدوا على النار ، أو على ما يدنو منها من حافات الأخدود ، كما قال الأعشى :


تشب لمقرورين يصطليانها وبات على النار الندى والمحلق



( شهود ) يشهد بعضهم لبعض عند الملك ، أي لم يفرط فيما أمر به ، أو شهود يوم القيامة على ما فعلوا بالمؤمنين ، يوم تشهد عليهم جوارحهم بأعمالهم . وقرأ الجمهور : ( نقموا ) بفتح القاف ، وزيد بن علي ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة : بكسرها ، أي ما عابوا ولا أنكروا الإيمان ، كقوله : ( هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله ) وكقول قيس الرقيات :


ما نقموا من بني أمية إلا     أنهم يحلمون إن غضبوا



جعلوا ما هو في غاية الحسن قبيحا حتى نقموا عليه ، كما قال الشاعر :


ولا عيب فيها غير شكلة عينها     كذاك عتاق الطير شكل عيونها



وفي المنتخب : إنما قال ( إلا أن يؤمنوا ) لأن التعذيب إنما كان واقعا على الإيمان في المستقبل ، ولو كفروا في المستقبل لم يعذبوا على ما مضى ، فكأنه قال : إلا أن يديموا على إيمانهم . انتهى . وذكر الأوصاف التي يستحق بها تعالى أن يؤمن به ، وهو كونه تعالى عزيزا غالبا قادرا يخشى عقابه ، حميدا منعما يجب له الحمد على نعمته ، له ملك السماوات والأرض وكل من فيهما يحق عليه عبادته والخشوع له تقريرا ؛ لأن ما نقموا منهم هو الحق الذي لا ينقمه إلا مبطل منهمك في الغي .

( والله على كل شيء شهيد ) وعيد لهم أي إنه علم ما فعلوا فهو يجازيهم . والظاهر أن ( الذين فتنوا ) عام في كل من ابتلى المؤمنين والمؤمنات بتعذيب أو أذى ، وأن لهم عذابين : عذابا لكفرهم ، وعذابا لفتنتهم . وقال الزمخشري : يجوز أن يريد بالذين فتنوا أصحاب الأخدود خاصة ، وبالذين آمنوا المطروحين في الأخدود ، ومعنى فتنوهم : عذبوهم بالنار وأحرقوهم . ( فلهم ) في الآخرة ( عذاب جهنم ) بكفرهم ( ولهم عذاب الحريق ) وهي نار أخرى عظيمة تتسع كما يتسع الحريق ، أو لهم عذاب جهنم في الآخرة ، ولهم عذاب الحريق في الدنيا لما روي أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم . انتهى . وينبغي أن لا يجوز هذا الذي جوزه ؛ لأن في الآية ( ثم لم يتوبوا ) وأولئك المحرقون لم ينقل لنا أن أحدا منهم تاب ، بل الظاهر أنهم لم يلعنوا إلا وهم قد ماتوا على الكفر . وقال ابن عطية : ( ثم لم يتوبوا ) يقوي أن الآيات في قريش ؛ لأن هذا اللفظ في قريش أحكم منه في أولئك الذين قد علموا أنهم ماتوا على كفرهم . وأما قريش فكان فيهم وقت نزول الآية من تاب وآمن . انتهى . وكذلك قوله : ( إن الذين آمنوا ) المراد به العموم لا المطروحون في النار ، والبطش : الأخذ بقوة ( يبدئ ويعيد ) قال ابن زيد والضحاك : يبدئ الخلق بالإنشاء ، ويعيده بالحشر . وقال ابن عباس : عام في جميع الأشياء ، أي كل ما يبدأ وكل ما يعاد . وقال الطبري : يبدئ العذاب ويعيده على الكفار ، ونحوه عن ابن عباس قال : تأكلهم النار حتى يصيروا فحما ، ثم يعيدهم خلقا جديدا . وقرئ : ( يبدأ ) من بدأ ثلاثيا ، حكاه أبو زيد .

ولما ذكر شدة بطشه ذكر كونه ، غفورا ساترا لذنوب عباده ، ودودا لطيفا بهم محسنا إليهم ، وهاتان صفتا فعل . والظاهر أن الودود مبالغة في الواد ، وعن ابن عباس : المتودد إلى عباده بالمغفرة . وحكى المبرد عن القاضي إسماعيل بن إسحاق أن الودود هو الذي لا ولد له ، وأنشد :

[ ص: 452 ]

وأركب في الروع عريانة     ذلول الجماع لقاحا ودودا



أي : لا ولد لها تحن إليه . وقيل : الودود فعول بمعنى مفعول ، كركوب وحلوب ، أي يوده عباده الصالحون ( ذو العرش ) خص العرش بإضافة نفسه تشريفا للعرش وتنبيها على أنه أعظم المخلوقات . وقرأ الجمهور : ( ذو ) بالواو ، وابن عامر في رواية : ذي بالياء ، صفة لربك . وقال القفال : ( ذو العرش ) ذو الملك والسلطان . ويجوز أن يراد بالعرش السرير العالي ، ويكون خلق سريرا في سمائه في غاية العظمة ، بحيث لا يعرف عظمته إلا هو ومن يطلعه عليه . انتهى . وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد ، وابن وثاب ، والأعمش والمفضل عن عاصم ، والأخوان : ( المجيد ) بخفض الدال ، صفة للعرش ، ومجادته : عظمه وعلوه ومقداره وحسن صورته وتركيبه ، فإنه قيل : العرش أحسن الأجسام صورة وتركيبا . ومن قرأ : ذي العرش بالياء ، جاز أن يكون ( المجيد ) بالخفض صفة لذي ، والأحسن جعل هذه المرفوعات أخبارا عن هو ، فيكون ( فعال ) خبرا . ويجوز أن يكون ( الودود ذو العرش ) صفتين للغفور ، " وفعال " خبر مبتدأ وأتى بصيغة فعال ؛ لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة ، والمعنى : أن كل ما تعلقت به إرادته فعله لا معترض عليه .

( هل أتاك حديث الجنود ) تقرير لحال الكفرة ، أي قد أتاك حديثهم ، وما جرى لهم مع أنبيائهم ، وما حل بهم من العقوبات بسبب تكذيبهم ، فكذلك يحل بقريش من العذاب مثل ما حل بهم ، والجنود : الجموع المعدة للقتال ( فرعون وثمود ) بدل من الجنود ، وكأنه على حذف مضاف ، أي جنود فرعون ، واختصر ما جرى لهم إذ هم مذكورون في غير ما سورة من القرآن ، وذكر ثمود لشهرة قصتهم في بلاد العرب وهي متقدمة ، وذكر فرعون لشهرة قصته عند أهل الكتاب وعند العرب الجاهلية أيضا ، ألا ترى إلى زهير بن أبي سلمى وقوله :


ألم تر أن الله أهلك تبعا     وأهلك لقمان بن عاد وعاديا
وأهلك ذا القرنين من قبل ما لوى     وفرعون جبارا طغى والنجاشيا



وكان فرعون من المتأخرين في الهلاك ، فدل بقصته وقصة ثمود على أمثالهما من قصص الأمم المكذبين وهلاكهم . ( بل الذين كفروا ) أي من قومك ، ( في تكذيب ) حسدا لك ، لم يعتبروا بما جرى لمن قبلهم حين كذبوا أنبياءهم . ( والله من ورائهم محيط ) أي هو قادر على أن ينزل بهم ما أنزل بفرعون وثمود ومن كان محاطا به ، فهو محصور في غاية لا يستطيع دفعا ، والمعنى : دنو هلاكهم ، ولما ذكر أنهم في تكذيب ، وأن التكذيب عمهم حتى صار كالوعاء لهم ، وكان صلى الله عليه وسلم ، قد كذبوه وكذبوا ما جاء به وهو القرآن ، أخبر تعالى عن الذي جاء به وكذبوا فقال : ( بل هو قرآن ) أي بل الذي كذبوا به قرآن مجيد ، ومجادته : شرفه على سائر الكتب بإعجازه في نظمه وصحة معانيه ، وإخباره بالمغيبات وغير ذلك في محاسنه ، وقرأ الجمهور : ( قرآن مجيد ) موصوف وصفة ، وقرأ ابن السميقع : ( قرآن مجيد ) بالإضافة ، قال ابن خالويه : سمعت ابن الأنباري يقول معناه : بل هو قرآن رب مجيد ، كما قال الشاعر :

ولكن الغنى رب غفور

معناه : ولكن الغنى غنى رب غفور . انتهى . وعلى هذا أخرجه الزمخشري ، وقال ابن عطية : وقرأ اليماني : ( قرآن مجيد ) على الإضافة ، وأن يكون الله تعالى هو المجيد . انتهى . ويجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف لصفته ، فيكون مدلوله ومدلول التنوين ورفع ( مجيد ) واحدا ، وهذا أولى لتوافق القراءتين ، وقرأ الجمهور : ( في لوح ) بفتح اللام ، ( محفوظ ) بالخفض صفة للوح ، واللوح المحفوظ هو الذي فيه جميع الأشياء ، وقرأ ابن يعمر وابن السميقع : بضم اللام ، قال ابن خالويه : اللوح : الهواء . وقال الزمخشري : يعني اللوح فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح [ ص: 453 ] المحفوظ من وصول الشياطين إليه . انتهى . وقرأ الأعرج ، وزيد بن علي ، وابن محيصن ، ونافع بخلاف عنه : ( محفوظ ) بالرفع صفة لقرآن ، كما قال تعالى : ( وإنا له لحافظون ) ، أي هو محفوظ في القلوب ، لا يلحقه خطأ ولا تبديل .

التالي السابق


الخدمات العلمية