الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) هذا ليس بجواب مطابق للسؤال لكنه يتضمن الجواب إذ معناه منعني فضلي عليه لشرف عنصري على عنصره ، وهذا يقتضي عنده أن النار خير من الطين وإذا كان كذلك فالناشئ من الأفضل لا يسجد للمفضول ، قالوا : وذلك أن النار جسم مشرق علوي لطيف خفيف حار يابس مجاور لجواهر السماوات ملاصق لها ، والطين مظلم كثيف ثقيل بارد يابس بعيد عن مجاورة السماوات ، والنار قوية التأثير والفعل ، والطين ليس له إلا القبول والانفعال ، والفعل أشرف من الانفعال والنار مناسبة للحرارة الغريزية وهي مادة الحياة ، والطين ببرده ويبسه مناسب للموت وإذا تقرر هذا فالمخلوق من الأفضل أفضل فلا يؤمر الأفضل بخدمة المفضول ألا ترى أنه لو أمر مثلا مالك ، وأبو حنيفة بخدمة من هو دونهما في العلم لكان ذلك قبيحا في العقل ، ثم قالوا أخطأ إبليس من حيث فضل النار على الطين وهما في درجة واحدة من حيث هما جماد مخلوق ، والطين أفضل من النار من وجوه ، أحدها : أن من جوهر الطين الرزانة والسكون والوقار والأناة والحلم والحياء والصبر وذلك هو الداعي لآدم - عليه السلام - بعد السعادة التي سبقت له في التوبة والتواضع والتضرع فأورثه المغفرة والاجتباء والهداية ، ومن جوهر النار الخفة والطيش والحدة والارتفاع والاضطراب ، وذلك هو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت إلى الاستكبار والإصرار ، فأورثه الهلاك واللعنة والعذاب . قاله القفال ، ثم ذكروا وجوها عشرة يظهر بها فضل التراب على النار ، ثم قالوا : لا يدل من كانت مادته أفضل على أنه تكون صورته أفضل ، إذ الفضيلة عطية من الله تعالى ، ألا تراه تعالى يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر ، وأن الحبشي المؤمن خير من القرشي الكافر وإذا كانت المقدمة غير مسلمة لم ينتج ، والمقدمتان أن تقول : إبليس ناري المادة وكل ناري المادة أفضل من ترابي المادة ، فإبليس أفضل من ترابي المادة ، والمقدمة الثانية ممنوعة فلا تنتج . وقال ابن عباس ، والحسن ، وابن سيرين : أول من قاس إبليس ، قال ابن عباس : فأخطأ فمن قاس الدين برأيه قرنه الله مع إبليس ، وقالا : وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس . وقال بعض العلماء : أخطأ قياسه وذهب علمه أن الروح الذي نفخ في آدم ليس من طين واستدل نفاة القياس على إبطاله بقصة إبليس ولا حجة فيها ؛ لأنه قياس في مورد النص فهو فاسد فلا يدل على بطلان القياس حيث لا نص واستدل [ ص: 274 ] بقوله : ( إذ أمرتك ) على أن مطلق الأمر يدل على الوجوب ويدل على الفور لذم إبليس على امتناعه من السجود في الحال ولو لم يدل على الوجوب ولا على الفور لم يستوجب الذم في الحال ولا مطلقا .

( قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين ) . لما كان امتناعه من السجود لسبب ظهور شرفه على آدم عند نفسه قابله الله بالهبوط المشعر بالنزول من علو إلى أسفل ، والضمير في منها لم يتقدم له مفسر يعود عليه ، فقيل : يعود على الجنة وكان إبليس من سكانها ، وقال ابن عباس : كانوا في جنة عدن لا في جنة الخلد وخلق آدم من جنة عدن ، وقال ابن عطية : أهبط أولا وأخرج من الجنة وصار في السماء ؛ لأن الأخبار تظافرت أنه أغوى آدم وحواء من خارج الجنة ، ثم أمر آخرا بالهبوط من السماء مع آدم وحواء والحية ، وهذا كله بحسب ألفاظ القصة ، والله أعلم . انتهى . وقيل : يعود على السماء ، قال الزمخشري : فاهبط منها : من السماء التي هي مكان المطيعين المتواضعين من الملائكة إلى الأرض التي هي مقر العاصين المتكبرين من الثقلين ، وقيل : يعود على الأرض فكأنه كان له ملكها أمره أن يهبط منها إلى جزائر البحار فسلطانه فيها فلا يدخل الأرض إلا كهيئة السارق يخاف فيها حتى يخرج منها ، وهذا يحتاج إلى صحة نقل ، وقيل : يعود على صورته التي كان فيها ؛ لأنه افتخر أنه من النار فشوهت صورته بالإظلام وزوال إشراقه . قاله أبو روق ، وقيل : عائد على المدينة التي كان فيها ذكره الكرماني ، ويحتاج إلى تصحيح نقل ، وقيل : يعود على المنزلة والرتبة الشريفة التي كان فيها في محل الاصطفاء والتقريب إلى محل الطرد والتعذيب . ومعنى فما يكون لك : لا يصح لك ، أو لا يتم ، أو لا ينبغي ، بل التكبر منهي عنه في كل موضع ، وقيل : هو على حذف معطوف دل عليه المعنى ، التقدير : فيها ولا في غيرها ، وقيل المعنى ما للمتكبر أن يكون فيها ، وكرر معنى الهبوط بقوله : فاخرج ؛ لأن الهبوط منها خروج ولكنه أخبر بصغاره وذلته وهو أنه جزاء على تكبره قوبل بالضد مما اتصف به وهو الصغار هو ضد التكبر ، والتكبر تفعل منه ؛ لأنه خلق كبيرا عظيما ، ولكنه هو الذي تعاطى الكبر ، ومن كلام عمر : ومن تكبر وعدا طوره رهصه الله إلى الأرض .

التالي السابق


الخدمات العلمية