الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا .

                                                                                                                                                                                                                                      اعلم أن في هذه الآية الكريمة : قراءات سبعية ، وأقوالا لعلماء التفسير ، بعضها يشهد له قرآن ، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية قد تكون فيها مذاهب العلماء ، يشهد لكل واحد منها قرآن ، فنذكر الجميع وأدلته في القرآن . فإذا علمت ذلك فاعلم أن قوله في هذه الآية : ولم تكن له فئة [ 18 \ 43 ] ، قرأه السبعة ما عدا حمزة والكسائي بالتاء المثناة الفوقية ، وقرأه حمزة والكسائي : " ولم يكن له فئة " بالياء المثناة التحتية ، وقولـه : الولاية لله الحق [ 18 \ 44 ] ، قرأه السبعة [ ص: 279 ] ما عدا حمزة والكسائي أيضا " الولاية " بفتح الواو ، وقرأه حمزة والكسائي بكسر الواو ، وقوله " الحق " قرأه السبعة ما عدا أبا عمرو والكسائي بالخفض نعتا " لله " ، وقرأه أبو عمرو والكسائي بالرفع نعتا للولاية ، فعلى قراءة من قرأ " الولاية لله " بفتح الواو فإن معناها : الموالاة والصلة ، وعلى هذه القراءة ففي معنى الآية وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : أن معنى هنالك الولاية لله ، أي : في ذلك المقام ، وتلك الحال تكون الولاية من كل أحد لله ; لأن الكافر إذا رأى العذاب رجع إلى الله ، وعلى هذا المعنى فالآية كقوله تعالى : فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين [ 40 \ 84 ] ، وقولـه في فرعون : حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين [ 10 \ 90 - 91 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني : أن الولاية في مثل ذلك المقام وتلك الحال لله وحده ، فيوالي فيه المسلمين ولاية رحمة ، كما في قوله تعالى : الله ولي الذين آمنوا الآية [ 2 \ 257 ] ، وقولـه : ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم [ 47 \ 11 ] ، وله على الكافرين ولاية الملك والقهر ، كما في قوله : وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 10 \ 30 ] ، وعلى قراءة حمزة والكسائي فالولاية بالكسر بمعنى الملك والسلطان ، والآية على هذه القراءة ; كقوله : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ 40 \ 16 ] ، وقولـه : الملك يومئذ الحق للرحمن [ 25 \ 26 ] ، وقولـه : الملك يومئذ لله يحكم بينهم [ 22 \ 56 ] ، وعلى قراءة " الحق " بالجر نعتا لله ، فالآية كقوله : وردوا إلى الله مولاهم الحق الآية [ 18 \ 44 ] ، وقولـه : فذلكم الله ربكم الحق الآية [ 10 \ 32 ] ، وقولـه : يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين [ 24 \ 25 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وعلى قراءة " الحق " بالرفع نعتا للولاية ، على أن الولاية بمعنى الملك ، فهو كقوله : الملك يومئذ الحق للرحمن .

                                                                                                                                                                                                                                      وما ذكره جل وعلا عن هذا الكافر : من أنه لم تكن له فئة ينصرونه من دون الله ذكر نحوه عن غيره من الكفار ، كقوله في قارون : فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين [ 28 \ 81 ] ، [ ص: 280 ] وقولـه : فما له من قوة ولا ناصر [ 86 \ 10 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة جدا . وقوله : هنالك ، قال بعض العلماء : هو متعلق بما بعده ، والوقف تام على قوله : وما كان منتصرا ، وقال بعضهم : هو متعلق بما قبله ، فعلى القول الأول فالظرف الذي هو " هنالك " عامله ما بعده ، أي : الولاية كائنة لله هنالك . وعلى الثاني فالعامل في الظرف اسم الفاعل الذي هو " منتصرا " أي : لم يكن انتصاره واقعا هنالك . وقوله : هو خير ثوابا ، أي : جزاء كما تقدم ، وقوله " عقبا " أي : عاقبة ومآلا ، وقرأه السبعة ما عدا عاصما وحمزة " عقبا " بضمتين . وقراءة عاصم وحمزة " عقبا " بضم العين وسكون القاف والمعنى واحد . وقوله " ثوابا " وقوله " عقبا " كلاهما منصوب على التمييز بعد صيغة التفضيل التي هي " خير " كما قال في الخلاصة :


                                                                                                                                                                                                                                      والفاعل المعنى انصبن بأفعلا مفضلا كأنت أعلى منزلا

                                                                                                                                                                                                                                      ولفظة خير وشر كلتاهما تأتي صيغة تفضيل حذفت منها الهمزة تخفيفا لكثرة الاستعمال ، قال ابن مالك في الكافية :


                                                                                                                                                                                                                                      وغالبا أغناهم خير وشر     عن قولهم أخر منه وأشر



                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية