الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      المسألة الثانية :

                                                                                                                                                                                                                                      اعلم أن الاجتهاد في الأحكام في الشرع دلت عليه أدلة من الكتاب والسنة ، منها هذا الذي ذكرنا هنا . وقد قدمنا في سورة بني " إسرائيل " طرفا من ذلك ، ووعدنا بذكره مستوفى في هذه السورة الكريمة وسورة الحشر ، وهذا أوان الوفاء بذلك الوعد في هذه السورة الكريمة . وقد علمت مما مر في سورة " بني إسرائيل " أنا ذكرنا طرفا من الأدلة على الاجتهاد فبينا إجماع العلماء على العمل بنوع الاجتهاد المعروف بالإلحاق بنفي الفارق الذي يسميه الشافعي القياس في معنى الأصل ، وهو تنقيح المناط . وأوضحنا أنه لا ينكره إلا مكابر ، وبينا الإجماع أيضا على العمل بنوع الاجتهاد المعروف بتحقيق المناط ، وأنه لا ينكره إلا مكابر ، وذكرنا أمثلة له في الكتاب والسنة ، وذكرنا أحاديث دالة على الاجتهاد ، منها الحديث المتفق عليه المتقدم ، ومنها حديث معاذ حين بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن ، وقد وعدنا بأن نذكر طرقه هنا إلى آخر ما ذكرنا هناك .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 173 ] اعلم أن جميع روايات هذا الحديث المذكورة في المسند والسنن كلها من طريق شعبة ، عن أبي عون ، عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة ، عن أناس من أصحاب معاذ ، عن معاذ ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                                                      أما الرواية المتصلة الصحيحة التي ذكرنا سابقا عن ابن قدامة في ( روضة الناظر ) أن عبادة بن نسي رواه عن عبد الرحمن بن غنم ، عن معاذ ، فهذا الإسناد وإن كان متصلا ورجاله معروفون بالثقة ، فإني لم أقف على من خرج هذا الحديث من هذه الطريق ، إلا ما ذكره العلامة ابن القيم في ( إعلام الموقعين ) عن أبي بكر الخطيب بلفظ : وقد قيل إن عبادة بن نسي رواه عن عبد الرحمن بن غنم ، عن معاذ . ا هـ منه . ولفظة " قيل " صيغة تمريض كما هو معروف ، وإلا ما ذكره ابن كثير في تاريخه ، فإنه لما ذكره فيه حديث معاذ المذكور باللفظ الذي ذكرنا بالإسناد الذي أخرجه به الإمام أحمد قال : وأخرجه أبو داود ، والترمذي من حديث شعبة به . وقال الترمذي : لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وليس إسناده عندي بمتصل . ثم قال ابن كثير : وقد رواه ابن ماجه من وجه آخر عنه ، إلا أنه من طريق محمد بن سعيد بن حسان وهو المصلوب أحد الكذابين ، عن عبادة بن نسي ، عن عبد الرحمن ، عن معاذ به نحوه .

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن النسخة الموجودة بأيدينا من تاريخ ابن كثير التي هي من الطبعة الأولى سنة ( 1351 ) فيها تحريف مطبعي في الكلام الذي ذكرنا ؛ ففيها محمد بن سعد بن حسان ، والصواب محمد بن سعيد لا سعد . وفيها : عن عياذ بن بشر ، والصواب عن عبادة بن نسي .

                                                                                                                                                                                                                                      وما ذكره ابن كثير من إخراج ابن ماجه لحديث معاذ المذكور من طريق محمد بن سعيد المصلوب ، عن عبادة بن نسي ، عن عبد الرحمن وهو ابن غنم ، عن معاذ - لم أره في سنن ابن ماجه ، والذي في سنن ابن ماجه بالإسناد المذكور من حديث معاذ غير المتن المذكور ، وهذا لفظه : حدثنا الحسن بن حماد سجادة ، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي ، عن محمد بن سعيد بن حسان ، عن عبادة بن نسي ، عن عبد الرحمن بن غنم ، حدثنا معاذ بن جبل ، قال : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن ، قال : " لا تقضين ، ولا تفصلن إلا بما تعلم ، وإن أشكل عليك أمر فقف حتى تبينه أو تكتب إلي فيه " ا هـ منه . وما أدري أوهم الحافظ بن كثير فيما ذكر ؟ أو هو يعتقد أن معنى " تبينه " في الحديث أي : تعلمه باجتهادك في استخراجه من المنصوص ، فيرجع إلى معنى الحديث المذكور ؟ وعلى كل حال [ ص: 174 ] فالرواية المذكورة من طريق عبادة بن نسي ، عن ابن غنم ، عن معاذ ، فيها كذاب وهو محمد بن سعيد المذكور الذي قتله أبو جعفر المنصور في الزندقة وصلبه . وقال أحمد بن صالح : وضع أربعة آلاف حديث . فإذا علمت بهذا انحصار طرق الحديث المذكور الذي فيه أن معاذا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إنه إن لم يجد المسألة في كتاب الله ، ولا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اجتهد فيها رأيه ، وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك في الطريقتين المذكورتين - علمت وجه تضعيف الحديث ممن ضعفه ، وأنه يقول : طريق عبادة بن نسي ، عن ابن غنم لم تسندوها ثابتة من وجه صحيح إليه ، والطريق الأخرى التي في المسند ، والسنن فيها الحارث بن أخي المغيرة وهو مجهول ، والرواة فيها أيضا عن معاذ مجاهيل - فمن أين قلتم بصحتها ؟ وقد قدمنا أن ابن كثير قال في مقدمة تفسيره : إن الطريقة المذكورة في المسند ، والسنن بإسناد جيد . وقلنا : لعله يرى أن الحارث المذكور ثقة ، وقد وثقه ابن حبان ، وأن أصحاب معاذ لا يعرف فيهم كذاب ، ولا متهم .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ويؤيد ما ذكرنا عن مراد ابن كثير بجودة الإسناد المذكور ما قاله العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين ، قال فيه : وقد أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذا على اجتهاد رأيه فيما لم يجد فيه نصا عن الله ورسوله ، فقال شعبة : حدثني أبو عون عن الحارث بن عمرو ، عن أناس من أصحاب معاذ : أن رسوله - صلى الله عليه وسلم - لما بعثه إلى اليمن قال : " كيف تصنع إن عرض لك قضاء " ؟ قال : أقضي بما في كتاب الله . قال : " فإن لم يكن في كتاب الله " ؟ قال : فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال " فإن لم يكن في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ؟ قال : أجتهد رأيي ، لا آلو . فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدري ثم قال : " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما يرضي رسول الله " . فهذا حديث إن كان عن غير مسمين فهم أصحاب معاذ ، فلا يضره ذلك ؛ لأنه يدل على شهرة الحديث ، وأن الذي حدث له الحارث بن عمرو عن جماعة من أصحاب معاذ ، لا واحد منهم ، وهذا أبلغ في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم ولو سمي ، كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم ، والدين ، والفضل ، والصدق بالمحل الذي لا يخفى ، ولا يعرف في أصحابه متهم ، ولا كذاب ، ولا مجروح ، بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم ، ولا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك ، كيف وشعبة حامل لواء هذا الحديث ؟ وقال بعض أئمة الحديث : إذا رأيت شعبة في إسناد حديث فاشدد يديك به . قال أبو بكر الخطيب : وقد قيل : إن عبادة بن نسي رواه عن عبد الرحمن بن غنم ، عن معاذ ، وهذا إسناد متصل ، ورجاله معروفون بالثقة على أن أهل [ ص: 175 ] العلم قد نقلوه واحتجوا به . فوقفنا بذلك على صحته عندهم ، كما وقفنا بذلك على صحة قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا وصية لوارث " ، وقوله في البحر : " هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته " ، وقوله : " إذا اختلف المتبايعان في الثمن ، والسلعة قائمة تحالفا وترادا البيع " ، وقوله : " الدية على العاقلة " . وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد ولكن لما تلقتها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها . فكذلك حديث معاذ لما احتجوا به جميعا غنوا عن طلب الإسناد له . انتهى منه . وحديث عمرو بن العاص وأبي هريرة الثابت في الصحيحين شاهد له كما قدمنا ، وله شواهد غير ذلك ستراها إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية