الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وأما ما يسمونه المستطيع بغيره فهو نوعان :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول منهما : هو من لا يقدر على الحج بنفسه ، لكونه زمنا ، أو هرما ونحو ذلك ، ولكنه له مال يدفعه إلى من يحج عنه ، فهل يلزمه الحج نظرا إلى أنه مستطيع بغيره ، فيدخل في عموم : من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] ؟ أو لا يجب عليه الحج ; لأنه عاجز غير مستطيع بالنظر إلى نفسه ، فلا يدخل في عموم الآية ؟

                                                                                                                                                                                                                                      وبالقول الأول قال الشافعي وأصحابه ; فيلزمه عندهم أجرة أجير يحج عنه بشرط أن يجد ذلك بأجرة المثل . قال النووي : وبه قال جمهور العلماء ، منهم علي بن أبي طالب ، والحسن البصري ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وأحمد ، وإسحاق ، وابن المنذر ، وداود . وقال مالك : لا يجب عليه ذلك ، ولا يجب إلا أن يقدر على الحج بنفسه ، واحتج مالك بقوله تعالى : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [ 53 \ 39 ] وبقوله تعالى : من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] ، وهذا لا يستطيع بنفسه ، فيصدق عليه اسم غير المستطيع ، وبأنها عبادة لا تصح فيها النيابة مع القدرة ، فكذلك مع العجز كالصلاة ، واحتج الأكثرون القائلون بوجوب الحج عليه بأحاديث رواها الجماعة .

                                                                                                                                                                                                                                      منها : ما رواه البخاري في صحيحه : حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جريح ، عن ابن شهاب ، عن سليمان بن يسار ، عن ابن عباس ، عن الفضل بن عباس رضي الله عنهم : أن امرأة ( ح ) حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة ، حدثنا ابن شهاب عن سليمان بن يسار ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاءت امرأة من خثعم عام حجة الوداع قالت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن فريضة الله أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة ، فهل يقضي عنه أن أحج عنه ؟ قال : " نعم " . وفي رواية في صحيح البخاري عن ابن عباس فقالت : إن فريضة الله أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة ، أفأحج عنه ؟ قال : " نعم " ، وذلك في حجة الوداع .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي لفظ في صحيح البخاري ، عن ابن عباس : إن فريضة الله على عباده في الحج [ ص: 320 ] أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة ; أفأحج عنه ؟ قال : " نعم " وذلك في حجة الوداع . اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى ، قال : قرأت على مالك ، عن ابن شهاب ، عن سليمان بن يسار ، عن عبد الله بن عباس : " أنه كان الفضل رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاءت امرأة من خثعم تستفتيه ، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر ، قالت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ، أفأحج عنه ؟ قال : " نعم " . وذلك في حجة الوداع .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي لفظ لمسلم قالت : يا رسول الله ، إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج ، وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فحجي عنه " . اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا الحديث الذي اتفق عليه الشيخان أخرجه باقي الجماعة ، إلا أن بعضهم يرويه عن ابن عباس ; وهو عبد الله ، وبعضهم يرويه عن أخيه الفضل بن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو داود في سننه : حدثنا حفص بن عمر ، ومسلم بن إبراهيم بمعناه قالا : حدثنا شعبة ، عن النعمان بن سالم ، عن عمرو بن أوس ، عن أبي رزين - قال حفص في حديثه : رجل من بني عامر - أنه قال : يا رسول الله ، إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ، ولا العمرة ، ولا الظعن . قال : " احجج عن أبيك واعتمر " وقال أبو عيسى الترمذي : حدثنا يوسف بن عيسى ، نا وكيع عن شعبة ، عن النعمان بن سالم ، عن عمرو بن أوس ، عن أبي رزين العقيلي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن أبي شيخ كبير . إلى آخر الحديث كلفظ أبي داود الذي ذكرنا ، ثم قال : قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ، وإنما ذكرت العمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث : أن يعتمر الرجل عن غيره ، وأبو رزين العقيلي اسمه لقيط بن عامر . انتهى منه .

                                                                                                                                                                                                                                      وحديث أبي رزين هذا أخرجه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ، وعن علي بن محمد ، قال : حدثنا وكيع ، عن شعبة به نحو ما تقدم . وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الترمذي بعد ذكره الحديث المتفق عليه في قصة استفتاء الخثعمية ما نصه : وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب غير حديث . والعمل على هذا عند أهل العلم من [ ص: 321 ] أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم ، وبه يقول الثوري ، وابن المبارك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، يرون أن يحج عن الميت .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مالك : إذا أوصى أن يحج عنه حج عنه ، وقد رخص بعضهم أن يحج عن الحي ، إذا كان كبيرا أو بحال لا يقدر أن يحج ، وهو قول ابن المبارك والشافعي . انتهى من سنن الترمذي .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال النسائي في سننه : أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ، قال : أنبأنا وكيع ، قال : حدثنا شعبة ، عن النعمان بن سالم إلى آخر السند والمتن ، كما ذكرناه آنفا عند الترمذي . اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      وعن علي رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة شابة من خثعم فقالت : إن أبي كبير ، وقد أفند وأدركته فريضة الله في الحج ، ولا يستطيع أداءها فيجزئ عنه أن أؤديها عنه ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نعم " رواه أحمد والترمذي ، وصححه . انتهى منهما بواسطة نقل المجد في المنتقى والنووي في شرح المهذب .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الشوكاني في نيل الأوطار : وحديث علي أخرجه أيضا البيهقي . اهـ . وقوله في هذا الحديث : وقد أفند ؛ أي : خرف وضعف عقله من الهرم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال النسائي في سننه : أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ، قال : أنبأنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن يوسف بن الزبير ، عن عبد الله بن الزبير ، قال : جاء رجل من خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الركوب ، وأدركته فريضة الله في الحج فهل يجزئ أن أحج عنه ؟ قال " أنت أكبر ولده ؟ قال : نعم ، قال : أرأيت لو كان عليه دين أكنت تقضيه ؟ قال : نعم . قال : فحج عنه " وفي لفظ للنسائي ، عن ابن عباس قال : قال رجل : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن أبي مات ولم يحج ، أفأحج عنه ؟ قال " أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه ؟ " قال : نعم ، قال : فدين الله أحق " وفي لفظ عند النسائي ، عن ابن عباس : أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم : إن أبي أدركه الحج وهو شيخ كبير لا يثبت على راحلته ، فإن شددته خشيت أن يموت ، أفأحج عنه ؟ قال " أرأيت لو كان عليه دين فقضيته ، أكان مجزئا ؟ قال : نعم . قال : فحج عن أبيك " . اهـ من سنن النسائي .

                                                                                                                                                                                                                                      وحديث ابن الزبير الذي ذكرناه آنفا عند النسائي قال المجد في المنتقى : رواه الإمام أحمد والنسائي بمعناه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الشوكاني : قال الحافظ : إن إسناده صالح . انتهى . والأحاديث بمثل هذا كثيرة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 322 ] وأما النوع الثاني من نوعي المستطيع بغيره ، فهو من لا يقدر على الحج بنفسه ، وليس له مال يدفعه لمن يحج عنه ، ولكن له ولد يطيعه إذا أمره بالحج والولد مستطيع ، فهل يجب الحج على الوالد ، ويلزمه أمر الولد بالحج عنه لأنه مستطيع بغيره ؟ فيه خلاف بين أهل العلم .

                                                                                                                                                                                                                                      قال النووي في شرح المهذب : فرع في مذاهبهم في المعضوب إذا لم يجد ما لا يحج به غيره ، فوجد من يطيعه ; قد ذكرنا أن مذهبنا وجوب الحج عليه . وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد : لا يجب عليه ، وقد علمت أن مالكا احتج في مسألة العاجز الذي له مال بقوله تعالى : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [ 53 \ 39 ] وبأنه عاجز بنفسه فهو غير مستطيع إلى الحج سبيلا ، إلى آخر ما تقدم ، وبأن سعيد بن منصور وغيره رووا عن ابن عمر بإسناد صحيح : أنه لا يحج أحد عن أحد ، ونحوه عن الليث ومالك ، وأن الذين خالفوه احتجوا بالأحاديث التي ذكرنا ، وفيها ألفاظ ظاهرها الوجوب ، كتشبيهه بدين الآدمي ، وكقول السائل : يجزئ عنه أن أحج عنه ؟ والإجزاء دليل المطالبة ، وفي بعض رواياتها أن السائل يقول : إن عليه فريضة الحج ، ويستأذن النبي في الحج عنه ، وهو صلى الله عليه وسلم لم يبين له أن الحج سقط عنه بزمانته وعجزه عن الثبوت على الراحلة ، وبقوله للولد " أنت أكبر ولده " وأمره بالحج عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الذين فرقوا بين وجود المعضوب مالا فأوجبوا عليه الحج ، وبين وجوده ولدا يطيعه فلم يوجبوه عليه ; فلأن المال ملكه ، فعليه أن يستأجر به ، والولد مكلف آخر ليس ملزما بفرض على شخص آخر ، ولأنه وإن كان له ولد فليس بمستطيع ببدن ، ولا بزاد وراحلة ، ولو وجد إنسانا غير الولد يطيعه في الحج عنه ، فهل يكون حكمه حكم الولد ؟ فيه خلاف معروف . وفي فروع الشافعية توجيه كل قول منها ، فانظره في النووي في شرح المهذب ، وأظهرها أنه كالولد .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية