الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3 ] المسألة الثانية عشرة في التلبية في بيان أول وقتها ووقت انتهائها وفي حكمها وكيفية لفظها ومعناها :

                                                                                                                                                                                                                                      أما لفظها : فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - وفي صحيح البخاري ، من حديث عائشة - رضي الله عنها - ومسلم من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في تلبيته ، إذا أهل محرما " لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك " ورواية البخاري عن عائشة المذكورة إلى قوله : " إن الحمد والنعمة لك " وقد أجمع المسلمون على لفظ التلبية المذكورة في حديث ابن عمر المتفق عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      وحديث جابر عند مسلم ، عند الإحرام بالحج أو العمرة . ولكن اختلفوا في الزيادة عليه بألفاظ فيها تعظيم الله ، ودعاؤه ، ونحو ذلك فكره بعضهم : الزيادة ، على تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحكاه ابن عبد البر ، عن مالك قال : وهو أحد قولي الشافعي ، انتهى منه بواسطة نقل ابن حجر في " الفتح " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخرون : لا بأس بالزيادة المذكورة ، واستحب بعضهم الزيادة المذكورة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي في هذه المسألة : أن الأفضل هو الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والاقتصار على لفظ تلبيته الثابت في الصحيحين وغيرهما ; لأن الله تعالى يقول : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] وهو - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لتأخذوا عني مناسككم " وأن الزيادة المذكورة لا بأس بها . والدليل على ذلك من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : ما رواه مسلم في صحيحه ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - بعد أن ساق حديثه بلفظ تلبية النبي - صلى الله عليه وسلم - المذكورة قال : قال نافع : كان عبد الله - رضي الله عنه - يزيد مع هذا : لبيك لبيك وسعديك ، والخير بيديك لبيك ، والرغباء إليك ، والعمل . وقال مسلم [ ص: 4 ] - رحمه الله - في صحيحه أيضا بعد أن ساق حديثه ، بتلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ابن عمر من رواية ابنه سالم - رضي الله عنه - وكان عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - يقول : كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يهل بإهلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هؤلاء الكلمات ويقول : لبيك اللهم لبيك ، لبيك وسعديك ، والخير في يديك والرغباء إليك والعمل . ، ا هـ .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن حجر في " الفتح " بعد أن ذكر الرواية عن عمر وابنه عبد الله ، فعرف أن ابن عمر اقتدى في ذلك بأبيه ، ا هـ .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعلوم أن الزيادة على تلبية النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كان فيها محذور ، لما فعلها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وابنه عبد الله - رضي الله عنهما - .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني : هو ما ثبت في صحيح مسلم في حديث جابر الطويل ، فإن فيه ما نصه : فأهل بالتوحيد : " لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك " ، وأهل الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم شيئا منه . انتهى محل الغرض من حديث جابر المذكور ، وهو واضح في أنهم يزيدون على تلبيته - صلى الله عليه وسلم - ويقرهم على ذلك ، ولم ينكره عليهم كما ترى .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما أول وقتها : فأظهر أقوال أهل العلم فيه : أنه أول الوقت ، الذي يركب فيه مركوبه عند إرادة ابتداء السير لصحة الأحاديث الواردة ، بأنه - صلى الله عليه وسلم - أهل حين استوت به راحلته .

                                                                                                                                                                                                                                      قال البخاري في صحيحه : باب من أهل حين استوت به راحلته قائمة : حدثنا أبو عاصم ، أخبرنا ابن جريج قال : أخبرني صالح بن كيسان ، عن نافع ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - : قال : أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين استوت به راحلته قائما .

                                                                                                                                                                                                                                      باب الإهلال مستقبل القبلة ، وقال أبو معمر : حدثنا عبد الوارث ، حدثنا أيوب ، عن نافع قال : كان ابن عمر - رضي الله عنهما - : إذا صلى بالغداة بذي الحليفة ، أمر براحلته فرحلت ، ثم ركب ، فإذا استوت به استقبل القبلة قائما ، ثم يلبي حتى يبلغ الحرم ، ثم يمسك ، حتى إذا جاء ذا طوى بات به ، حتى يصبح ، فإذا صلى الغداة اغتسل ، وزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك . تابعه إسماعيل عن أيوب في الغسل : حدثنا سليمان بن داود أبو الربيع ، حدثنا فليح ، عن نافع قال : كان ابن عمر - رضي الله عنهما - إذا أراد الخروج إلى مكة ادهن بدهن ، ليس له رائحة طيبة ، ثم يأتي مسجد الحليفة ، فيصلي ثم يركب ، وإذا استوت به راحلته قائمة أحرم ، ثم قال : هكذا رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل . انتهى من صحيح البخاري .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 5 ] فهذه الروايات الصحيحة الثابتة ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - : أنه - صلى الله عليه وسلم - أحرم حين استوت به راحلته قائمة واضحة فيما ذكرنا ، من أن أول وقت الإحرام عندما يركب حالة شروعه في السير من الميقات .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى ، قال : قرأت على مالك عن موسى بن عقبة ، عن سالم بن عبد الله أنه سمع أباه - رضي الله عنه - يقول : بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها ما أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا من عند المسجد يعني : ذا الحليفة . وحدثناه قتيبة بن سعيد ، حدثنا حاتم يعني : ابن إسماعيل ، عن موسى بن عقبة ، عن سالم قال : كان ابن عمر - رضي الله عنهما - إذا قيل له : الإحرام من البيداء قال : البيداء التي تكذبون فيها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا من عند الشجرة ، حين قام به بعيره . وفي لفظ لابن عمر - رضي الله عنهما - عند مسلم : فإني لم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهل حتى تنبعث به راحلته . وفي لفظ له أيضا عند مسلم قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا وضع رجله في الغرز ، وانبعثت به راحلته قائمة أهل من ذي الحليفة . وفي مسلم عنه ألفاظ أخرى متعددة بهذا المعنى ، ومراد ابن عمر - رضي الله عنهما - بكذبهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الإحرام من البيداء هو ما رواه البخاري ، من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - بلفظ : فأصبح بذي الحليفة ركب راحلته ، حتى استوى على البيداء أهل هو وأصحابه . الحديث ، وما رواه البخاري - رحمه الله - في صحيحه أيضا ، عن أنس بن مالك بلفظ قال : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن معه بالمدينة الظهر أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين ، ثم بات بها ، حتى أصبح ، ثم ركب حتى استوت به على البيداء : حمد الله وسبح ، وكبر ، ثم أهل بحج وعمرة ، وأهل الناس بهما ، الحديث . ومراد ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل محرما حين استوت به راحلته قائمة من منزله بذي الحليفة ، قبل أن يصل البيداء ، ووجه الجمع بين حديث ابن عمر ، وحديث ابن عباس ، وأنس معروف عند أهل الحديث ، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - ابتدأ إهلاله حين استوت به راحلته قائمة فسمعه قوم ، ثم لما استوت به على البيداء أعاد تلبيته فسمعه آخرون لم يسمعوا تلبيته الأولى فحدث كل واحد منهم بما سمع .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعضهم : أحرم في مصلاه فسمعه بعضهم ، ولم يسمعه ابن عمر ، حتى استوت به راحلته ، وجزم ابن عمر أنه ما أهل حتى استوت به راحلته يدل على أنه علم أنه لم يهل حتى استوت به ، فالأحاديث متفقة ومراد ابن عمر بالإنكار والتكذيب خاص بمن زعم أنه [ ص: 6 ] لم يلب قبل وصوله البيداء ، وهذا الجمع ذكره ابن حجر ، عن أبي داود ، والحاكم ، وقال ابن حجر في " الفتح " : فائدة البيداء هذه فوق علمي ذي الحليفة ، لمن صعد من الوادي ، قاله أبو عبيد البكري وغيره . انتهى منه .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا عرفت مما ذكرنا أول وقت التلبية ، وأنه وقت انعقاد الإحرام ، فاعلم أن الصحيح الذي قام عليه الدليل : أن الحاج لا يقطع التلبية حتى يشرع في رمي جمرة العقبة ، وقال بعض أهل العلم : حتى ينتهي رميه إياها .

                                                                                                                                                                                                                                      والدليل على أن هذا القول هو الصواب دون غيره من أقوال أهل العلم هو ما ثبت في صحيح مسلم من حديث الفضل بن العباس - رضي الله عنهما - وكان رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع من مزدلفة إلى منى ، ففي لفظ لمسلم عن الفضل بن عباس : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة . وقوله في هذا الحديث الصحيح : حتى بلغ الجمرة ، هو حجة من قال : يقطع التلبية ، عند الشروع في الرمي ; لأن بلوغ الجمرة هو وقت الشروع في الرمي . وفي لفظ مسلم ، عن الفضل أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يلبي ، حتى رمى جمرة العقبة " وقوله في هذا الحديث " حتى رمى جمرة العقبة " هو حجة من قال : يلبي حتى ينتهي رميه ، وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - من طريق عبد الله بن يزيد قال : قال عبد الله : ونحن بجمع سمعت الذي أنزلت عليه سورة " البقرة " ، يقول في هذا المقام : " لبيك اللهم لبيك " وجمع هي المزدلفة . وهذا الحديث الصحيح يدل على تلبية النبي - صلى الله عليه وسلم - بمزدلفة بعد الرجوع من عرفة ، وفي لفظ لابن مسعود عند مسلم أيضا : قال عبد الله : أنسي الناس أم ضلوا سمعت الذي أنزلت عليه سورة " البقرة " يقول في هذا المكان : " لبيك اللهم لبيك " وفي لفظ عنه أيضا عند مسلم ، من رواية عبد الرحمن بن يزيد والأسود بن يزيد قالا : سمعنا عبد الله بن مسعود يقول بجمع : سمعت الذي أنزلت عليه سورة " البقرة " هاهنا يقول " لبيك اللهم لبيك " ثم لبى ولبينا معه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : فهذه النصوص الصحيحة ، تدل على عدم قطع التلبية ، والأظهر أنه يقطعها عند الشروع في رمي العقبة ، وأن رواية مسلم : حتى رمى جمرة العقبة ، يراد به الشروع في رميها ، لا الانتهاء منه .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن القرائن الدالة على ذلك : ما ثبت في الروايات الصحيحة من التكبير مع كل حصاة ، فظرف الرمي لا يستغرق غير التكبير ، مع الحصاة لتتابع رمي الحصيات .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 7 ] قال الزرقاني في " شرح الموطأ " ، ولابن خزيمة عن الفضل : أفضت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يزل يلبي ، حتى رمى جمرة العقبة يكبر مع كل حصاة ، ثم قطع التلبية مع آخر حصاة ، قال ابن خزيمة : حديث صحيح مفسر لما أبهم في الرواية الأخرى ، وأن المراد بقوله : حتى رمى جمرة العقبة ، أتم رميها ، ا هـ . وعلى تقدير صحة هذه الرواية لا ينبغي العدول عنها .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا علمت الصحيح الذي دلت عليه النصوص ، فاعلم أن في وقت انتهاء الرمي مذاهب للعلماء غير ما ذكرنا . فقد روي عن سعد بن أبي وقاص ، وعائشة : أنه يقطع التلبية إذا راح إلى الموقف ، وعن علي ، وأم سلمة : أنهما كانا يلبيان حتى تزول الشمس يوم عرفة ، وهذا قريب من قول سعد وعائشة ، وكان الحسن يقول : يلبي حتى يصلي الغداة يوم عرفة ، ومذهب مالك أنه يقطعها إذا زاغت الشمس من يوم عرفة ، وقد روى مالك - رحمه الله - في " الموطأ " عن جعفر بن محمد ، عن أبيه : أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان يلبي بالحج ، حتى إذا زاغت الشمس من يوم عرفة ، قطع التلبية . قال مالك : وذلك الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا ، ا هـ . وروى مالك في " الموطأ " أيضا عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنها كانت تترك التلبية إذا رجعت إلى الموقف ، وروي في " الموطأ " أيضا عن نافع ، عن ابن عمر : أنه كان يقطع التلبية في الحج إذا انتهى إلى الحرم . حتى يطوف بالبيت . وبين الصفا والمروة . ثم يلبي حتى يغدو من منى إلى عرفة . فإذا غدا ترك التلبية . وكان يترك في العمرة ، إذا دخل الحرم ، ا هـ .

                                                                                                                                                                                                                                      والتحقيق أنه لا يقطعها ، إلا إذا رمى جمرة العقبة ؛ لدلالة حديث الفضل بن عباس الثابت في الصحيح على ذلك دلالة واضحة ، ودلالة حديث ابن مسعود الثابت في الصحيح على تلبية النبي بمزدلفة أيضا ، ولم يثبت في كتاب الله ، ولا سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - شيء يخالف ذلك ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما حكم التلبية فقد اختلف فيه أهل العلم اختلافا معروفا ، قال ابن حجر في " فتح الباري " : لم يتعرض المصنف لحكم التلبية ، وفيها مذاهب أربعة ، يمكن توصيلها إلى عشرة .

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : أنها سنة من السنن لا يجب بتركها شيء ، وهو قول الشافعي وأحمد .

                                                                                                                                                                                                                                      ثانيها : واجبة ، ويجب بتركها دم حكاه الماوردي عن ابن أبي هريرة من الشافعية ، [ ص: 8 ] وقال : إنه وجد للشافعي نصا يدل عليه ، وحكاه ابن قدامة عن بعض المالكية ، والخطابي عن مالك وأبي حنيفة . وأغرب النووي فحكى عن مالك أنها سنة ، ويجب بتركها دم ، ولا يعرف ذلك عندهم إلا أن ابن الجلاب قال : التلبية في الحج مسنونة غير مفروضة ، وقال ابن التين : يريد أنها ليست من أركان الحج وإلا فهي واجبة ، ولذلك يجب بتركها الدم ، ولو لم تكن واجبة لم يجب ، وحكى ابن العربي : أنه يجب عندهم بترك تكرارها دم ، وهذا قدر زائد على أصل الوجوب .

                                                                                                                                                                                                                                      ثالثها : واجبة لكن يقوم مقامها فعل يتعلق بالحج ، كالتوجه على الطريق ، وبهذا صدر ابن شاس من المالكية كلامه في الجواهر له ، وحكى صاحب الهداية من الحنفية مثله ، لكن زاد القول الذي يقوم مقام التلبية من الذكر ، كما في مذهبهم من أنه لا يجب لفظ معين ، وقال ابن المنذر : قال أصحاب الرأي : إن كبر أو هلل أو سبح ينوي بذلك الإحرام ، فهو محرم .

                                                                                                                                                                                                                                      رابعها : أنها ركن في الإحرام لا ينعقد بدونها حكاه ابن عبد البر عن الثوري ، وأبي حنيفة ، وابن حبيب من المالكية ، والزبير من الشافعية ، وأهل الظاهر قالوا : هي نظيرة تكبيرة الإحرام للصلاة ، ويقويه ما تقدم من بحث ابن عبد السلام ، عن حقيقة الإحرام ، وهو قول عطاء ، أخرجه سعيد بن منصور بإسناد صحيح عنه ، قال : التلبية فرض الحج ، وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر وطاوس ، وعكرمة ، وحكى النووي عن داود أنه لا بد من رفع الصوت بها ، وهذا قدر زائد على أصل كونها ركنا . انتهى من " فتح الباري " .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا عرفت مذاهب أهل العلم في حكم التلبية ، فاعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبى كما ذكرنا وقال : " لتأخذوا عني مناسككم " فعلينا أن نأخذ عنه من مناسكنا التلبية ، وهذا القدر هو الذي قام عليه الدليل : أما كونها مسنونة أو مستحبة أو واجبة يصح الحج بدونها ، وتجبر بدم فكل ذلك لم يرد فيه دليل خاص ، والخير كله في اتباعه - صلى الله عليه وسلم - والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما معنى التلبية : فهي من لبى بمعنى : أجاب ، فلفظة : لبيك مثناة على قول سيبويه والجمهور ، وتثنيتها للتكثير : أي إجابة لك بعد إجابة ، ولزوما لطاعتك ، وقال يونس بن حبيب البصري : لبيك : اسم مفرد لا مثنى ، قال : وإنما انقلبت ألفه ياء لاتصالها بالضمير ، كما قلبت ألف لدى ، وإلى ، وعلى في حالة الاتصال بالضمير فتقول : لديك ، وإليك وعليك بإبدال الألف ياء ، والأظهر قول سيبويه ، وجمهور أهل اللغة .

                                                                                                                                                                                                                                      ومما يدل على ذلك أنه سمع في كلام العرب ثبوت الياء مع الإضافة للاسم الظاهر [ ص: 9 ] لا الضمير كما في قول الشاعر ، وهو أعرابي من بني أسد :


                                                                                                                                                                                                                                      دعوت لما نابني مسورا فلبى فلبى يدي مسور



                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن الأنباري : ثنوا لبيك كما ثنوا حنانيك : أي تحننا بعد تحنن ، وقال القاضي عياض : اختلفوا في معنى لبيك واشتقاقها ، فقيل معناها : اتجاهي وقصدي إليك ، مأخوذ من قولهم : داري تلب دارك أي تواجهها ، وقيل معناها محبتي لك مأخوذ من قولهم : امرأة لبة ، إذا كانت محبة لولدها عاطفة عليه ، وقيل معناها : إخلاصي لك مأخوذ من قولهم : حب لباب ، إذا كان خالصا محضا ، ومن ذلك لب الطعام ولبابه ، وقيل معناها : أنا مقيم على طاعتك ، وإجابتك مأخوذ من قولهم : لب الرجل بالمكان ، وألب به إذا أقام فيه ، قال ابن الأنباري :

                                                                                                                                                                                                                                      وبهذا قال الخليل . وقيل في لبيك : أي قربا منك ، وطاعة ، والإلباب : القرب ، وقال أبو نصر معناه : أنا ملب بين يديك أي : خاضع . انتهى كلام عياض ، مع تصرف وحذف يسير بواسطة نقل النووي في " شرح مسلم " ، وما قاله الشيخ عياض - رحمه الله - يدور حوله كلام أهل اللغة في معنى التلبية ، وبقية ألفاظ التلبية معانيها ظاهرة .

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن لفظة لبيك ملازمة للإضافة لضمير المخاطب ، وشذ إضافتها للظاهر ; كما تقدم قريبا ، وشذ أيضا إضافتها لضمير الغائب كقول الراجز : إنك لو دعوتني ودوني زوراء ذات متزع بيون لقلت لبيه لمن يدعوني .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية