الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      الفرع الثامن عشر : في أحكام أشياء متفرقة : كالنظر في المرآة للمحرم ، وغسل الرأس ، والبدن وما يلزم من قتله بغسله رأسه قملا ، والحجامة ، وحك الجسد ، والرأس وتقريد البعير ، وتضميد العين بالصبر ونحوه ، والسواك . أما النظر في المرآة : فالظاهر أنه لا بأس به للمحرم ، ولم يرد شيء يدل على النهي عنه فيما أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : باب الطيب عند الإحرام ، وما يلبس إذا أراد أن يحرم ويترجل ، ويدهن . وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يشم المحرم الريحان ، وينظر في المرآة ، ويتداوى بما يأكل الزيت والسمن ، وقال عطاء : يتختم ويلبس الهميان ، وطاف ابن عمر - رضي الله عنهما - وهو محرم ، وقد حزم على بطنه بثوب ، ولم تر عائشة - رضي الله عنها - بالتبان بأسا للذين يرحلون هودجها انتهى منه .

                                                                                                                                                                                                                                      ومحل الشاهد عنه قول ابن عباس : وينظر في المرآة وهذه المسائل التي ذكرها البخاري ، قد قدمناها كلها وأوضحنا مذاهب العلماء فيها ، إلا النظر في المرآة الذي هو غرضنا منها الآن . وكون عائشة لم تر بأسا بالتبان ، للذين يرحلون هودجها ، والتبان كرمان ، سراويل صغير يستر العورة المغلظة ، وإباحة عائشة للتبان للذين يرحلون هودجها قريب من قول المالكية : بجواز الاستثفار للركوب والنزول ، وما ذكره البخاري عن ابن عمر من : " أنه طاف وهو محرم ، وقد حزم على بطنه بثوب " خصص المالكية ، جواز شد الحزام [ ص: 92 ] على البطن من غير عقد بضرورة العمل خاصة كما تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                      والحاصل : أنه لا ينبغي أن يختلف في جواز نظر المحرم في المرآة ، إذ لا دليل على النهي عنه ، وذكر ابن حجر في " الفتح " : أنه نقلت كراهته عن القاسم بن محمد ، وذلك هو مشهور مذهب مالك ، وفي سماع ابن القاسم : لا أحب نظر المحرم في المرآة ، فإن نظر فلا شيء عليه ، وليستغفر الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأصح القولين عند الشافعية : أنه لا كراهة فيه ، ونقل ابن المنذر عدم الكراهة عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، وطاوس ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق قال : وبه أقول ، وكره ذلك عطاء الخراساني . وقال مالك : لا يفعل ذلك إلا عن ضرورة ، قال : وعن عطاء في المسألة قولان : بالكراهة والجواز ، وصح عن ابن عمر : أنه نظر في المرآة . انتهى بالمعنى من النووي .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحقيق إن شاء الله في هذه المسألة : أن مجرد نظر المحرم في المرآة لا بأس به ، ما لم يقصد به الاستعانة على أمر من محظورات الإحرام ، كنظر المرأة فيها لتكتحل بما فيه طيب أو زينة ، ونحو ذلك ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر في " الفتح " أيضا : أن سعيد بن منصور روى من طريق عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة : أنها حجت ، ومعها غلمان لها ، وكانوا إذا شدوا رحلها يبدو منهم الشيء ، فأمرتهم أن يتخذوا التبابين فيلبسوها ، وهم محرمون قال : وأخرجه من وجه آخر مختصرا بلفظ : يشدون هودجها ، انتهى محل الغرض منه ، وقوله : يرحلون هودجها هو بفتح الياء المثناة التحتية ، وسكون الراء ، وفتح الحاء من قولهم : رحلت البعير أرحله بفتح الحاء في المضارع ، والماضي رحلا بمعنى : شددت الرحل على ظهره ، ومنه قول الأعشى :

                                                                                                                                                                                                                                      رحلت سمية غدوة أجمالها غضبى عليك فما تقول بدا لها



                                                                                                                                                                                                                                      وقول المثقب العبدي وهو عائذ بن محصن :

                                                                                                                                                                                                                                      إذا ما قمت أرحلها بليل     تأوه آهة الرجل الحزين



                                                                                                                                                                                                                                      والهودج : مركب من مراكب النساء معروف ، وما ذكر عن عائشة - رضي الله عنها - ظاهره أنها إنما رخصت في التبان ، لمن يرحل هودجها ، لضرورة انكشاف العورة ، وهو [ ص: 93 ] يدل على أنه لا يجوز لغير ضرورة ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما غسل الرأس والبدن بالماء ، فإن كان لجنابة كاحتلام ، فلا خلاف في وجوبه ، وإن كان لغير ذلك فهو جائز على التحقيق ، ولكن ينبغي أن يكون برفق لئلا يقتل بعض الدواب في رأسه واغتسال المحرم ، وغسله رأسه ، لا ينبغي أن يختلف فيه : لثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكلما خالف السنة الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - فهو مردود على قائله .

                                                                                                                                                                                                                                      قال البخاري في صحيحه : باب الاغتسال للمحرم ، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يدخل المحرم الحمام ، ولم ير ابن عمر وعائشة بالحك بأسا . حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين ، عن أبيه : " أن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة اختلفا بالأبواء ، فقال عبد الله بن عباس : يغسل المحرم رأسه . وقال المسور : لا يغسل المحرم رأسه ، فأرسلني عبد الله بن العباس إلى أبي أيوب الأنصاري فوجدته يغتسل بين القرنين ، وهو يستر بثوب ، فسلمت عليه فقال : من هذا ؟ فقلت : أنا عبد الله بن حنين ، أرسلني إليك عبد الله بن العباس أسألك كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسل رأسه ، وهو محرم ؟ فوضع أبو أيوب يده على الثوب ، فطأطأه حتى بدا لي رأسه ، ثم قال لإنسان يصب عليه : اصبب ، فصب على رأسه ، ثم حرك رأسه بيديه ، فأقبل بهما ، وأدبر وقال : هكذا رأيته - صلى الله عليه وسلم - يفعل .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن حجر في الكلام على هذا الحديث : وكأنه خص الرأس بالسؤال ; لأنه موضع الإشكال في هذه المسألة ; لأنه محل الشعر الذي يخشى انتتافه بخلاف سائر البدن غالبا ، وحديث أبي أيوب المذكور أخرجه أيضا مسلم في صحيحه كلفظ البخاري ، وزاد مسلم فقال المسور لابن عباس : لا أماريك أبدا . وقال النووي في شرحه لحديث أبي أيوب : هذا عند مسلم ، وفي هذا الحديث فوائد .

                                                                                                                                                                                                                                      منها : جواز اغتسال المحرم ، وغسله رأسه ، وإمرار اليد على شعره بحيث لا ينتف شعرا إلى آخره ، وهذا حديث متفق عليه فيه التصريح : بجواز غسل الرأس في الإحرام ، وكذلك غسل البدن ، وقال النووي في " شرح المهذب " : قال الماوردي : أما اغتسال المحرم بالماء والانغماس فيه ، فجائز لا يعرف بين العلماء ، خلاف فيه ، لحديث أبي أيوب السابق : أما دخول الحمام وإزالة الوسخ عن نفسه فجائز أيضا عندنا وبه قال الجمهور ، وقال مالك : تجب الفدية بإزالة الوسخ ، وقال أبو حنيفة : إن غسل رأسه بخطمي ؛ لزمته الفدية . دليلنا حديث ابن عباس في المحرم الذي خر عن بعير . وقال ابن المنذر : وكره [ ص: 94 ] جابر بن عبد الله ومالك : غسل المحرم رأسه بالخطمي . قال مالك : وعليه الفدية ، وبه قال أبو حنيفة ، وقال أبو يوسف ، ومحمد : عليه صدقة . قال ابن المنذر : هو مباح لحديث ابن عباس . انتهى محل الغرض منه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قدمنا جواز غسل الرأس بالماء وحده ، عن المالكية ، وكراهة غمس الرأس في الماء ما لم يتيقن أنه لا يقتل بذلك بعض دواب الرأس .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال صاحب " اللسان " : والخطمي : ضرب من النبات ، بغسل به ، وفي الصحاح : يغسل به الرأس . قال الأزهري : هو بفتح الخاء ، ومن قال : خطمي بكسر الخاء فقد لحن ، وفي المدونة عن مالك : لا يدخل المحرم الحمام ، فإن دخله ، وتدلك ، وألقى الوسخ : افتدى . وقال اللخمي : أرى أن يفتدي ، ولو لم يتدلك ; لأن الشأن فيمن دخل الحمام ، ثم اغتسل أن الشعث يذهب عنه ، ولو لم يتدلك ، انتهى بواسطة نقل المواق .

                                                                                                                                                                                                                                      فتحصل : أن مطلق الغسل الذي لا تنظيف فيه لا خلاف فيه إلا ما رواه مالك ، عن ابن عمر : " أنه كان لا يغسل رأسه وهو محرم ، إلا من احتلام " . وروى مالك في " الموطأ " ، عن عمر بن الخطاب : " أنه غسل رأسه ، وهو محرم ، وأمر يعلى بن منية : أن يصب على رأسه أي : عمر الماء ، وقال : اصبب ، فلن يزيده الماء إلا شعثا " . وقد ثبت في الصحيحين جوازه ، وأن إزالة الوسخ بالتدلك في الحمام ، وغسل الرأس بالخطمي ونحو ذلك : فيه خلاف كما رأيت أقوال أهل العلم فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      وحجة من قال : من التدلك وإزالة الوسخ لا شيء فيه حديث ابن عباس في المحرم الذي خر عن بعيره ، ومات ، ونهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخمروا رأسه ووجهه ، وعلل ذلك : بأنه يبعث ملبيا ، ومع ذلك فقد أمرهم أن يغسلوه بماء وسدر ، وذلك ثابت في الصحيح ، وأن الأصل عدم الوجوب .

                                                                                                                                                                                                                                      واحتج من منع إزالة الوسخ : بأن الوسخ من التفث وقد دلت آية : ثم ليقضوا تفثهم على أن إزالة التفث : لا تجوز قبل وقت التحلل الأول .

                                                                                                                                                                                                                                      واحتجوا أيضا بحديث أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله تعالى يباهي بأهل عرفات أهل السماء ، فيقول لهم : انظروا إلى عبادي جاءوني شعثا غبرا " ، قال النووي في " شرح المهذب " : رواه البيهقي بإسناد صحيح .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الترمذي ، وابن ماجه ، عن ابن عمر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " الحاج الشعث التفل " وفيه إبراهيم بن يزيد الخوزي .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 95 ] قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أما مجرد الغسل الذي لا يزيده إلا شعثا كما قال عمر - رضي الله عنه - فلا ينبغي أن يختلف فيه ، لحديث أبي أيوب المتفق عليه ، وأما التدلك في الحمام ، وغسل الرأس بالخطمي ، فلا نص فيه ، والأحسن تركه احتياطا ، وأما لزوم الفدية فيه فلا أعلم له دليلا يجب الرجوع إليه ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما حكم من قتل بغسله رأسه قملا ، فلا أعلم في خصوص قتل المحرم القمل نصا من كتاب ، ولا سنة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قدمنا أن مذهب مالك : أنه إن قتل قملة أو قملات أطعم ملء يد واحدة من الطعام كفارة لذلك ، وإن قتل كثيرا منه لزمته الفدية ، وعن الشافعي أن من قتل قملة : أطعم شيئا قال : وأي شيء فداها به فهو خير منها . وعند الشافعي : أنه إن ظهر القمل على بدنه أو ثيابه ، لم يكره له أن ينحيه ; لأنه ألجأه .

                                                                                                                                                                                                                                      وذهب بعض أهل العلم إلى أن قتل القمل لا فدية فيه ، وهو مذهب أحمد وأصحابه ، مع أن عنه روايتين :

                                                                                                                                                                                                                                      إحداهما : إباحة قتله ; لأنه يؤذي ، والأخرى منع قتله ; لأن فيه ترفها .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - :

                                                                                                                                                                                                                                      أظهر أقوال أهل العلم عندي في ذلك : أن القمل لا يجوز قتله وأخذه من الرأس ، بدليل قصة كعب بن عجرة المتقدمة ، فإنه لو كان قتله يجوز لما صبر على أذاه ، ولتسبب في التفلي ; لإزالته من رأسه ، كما هو العادة المعروفة فيمن آذاه القمل ، وهو غير محرم إن لم يرد الحلق ، وأنه لا شيء على من قتله . والدليل على ذلك أمران .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أن الأصل عدم الوجوب إلا لدليل ، ولا دليل على لزوم شيء في قتل القمل ، مع أنه يؤذي أشد الإيذاء .

                                                                                                                                                                                                                                      الأمر الثاني : أن ظاهر حديث كعب بن عجرة المتفق عليه ، وظاهر القرآن العظيم كلاهما : يدل على أن الفدية إنما لزمت بسبب حلق الرأس ، مع كثرة ما فيه من القمل ، فلو كانت الفدية تلزم من قتل القمل ، وإزالته ، لبينه - صلى الله عليه وسلم - فقوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ظاهره : أن الأذى الذي برأسه من القمل ونحوه : كالمرض في إباحة الحلق ، وأن الفدية لزمت بسبب الحلق لا بسبب المرض ، ولا بسبب إزالة القمل ، وكذلك [ ص: 96 ] ظاهر حديث كعب ، حيث أمره بالحلق والفدية ، فهو يدل على أن الفدية من أجل الحلق لا غيره .

                                                                                                                                                                                                                                      ومما يؤيد ذلك : أن القمل لا قيمة له ، فهو كالبراغيث والبعوض ، وليس القمل بمأكول ، وليس بصيد .

                                                                                                                                                                                                                                      قال صاحب " المغني " : وحكي عن ابن عمر قال : هي أهون مقتول ، وسئل ابن عباس ، عن محرم ألقى قملة ، ثم طلبها فلم يجدها ؟ قال : تلك ضالة لا تبتغى . قال : وهذا قول طاوس ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وأبي ثور ، وابن المنذر ، وعن أحمد فيمن قتل قملة ، قال : يطعم شيئا فعلى هذا أي شيء تصدق به أجزأه ، سواء قتل كثيرا أو قليلا ، وهذا قول أصحاب الرأي وقال إسحاق : تمرة فما فوقها . وقال مالك : حفنة من طعام . وروي ذلك عن ابن عمر ، وقال عطاء : قبضة من طعام .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الأقوال كلها راجعة إلى ما قلناه ، فإنهم لم يريدوا بذلك التقدير ، وإنما هو على التقريب لأقل ما يتصدق به . انتهى من " المغني " . ولا يخفى أنها أقوال لا دليل على شيء منها .

                                                                                                                                                                                                                                      وحجة القائلين بها في الجملة : أن قتل القمل فيه ترفه للمحرم ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الحجامة : إن دعت إليها ضرورة ، فلا خلاف في جوازها للمحرم ، وإنما اختلف أهل العلم في الفدية ، إن احتجم . أما جوازها لضرورة فهو ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبوتا لا مطعن فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال البخاري في صحيحه : باب الحجامة للمحرم : وكوى ابن عمر ابنه ، وهو محرم ، ويتداوى ما لم يكن فيه طيب .

                                                                                                                                                                                                                                      حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، قال : قال عمرو : أول شيء سمعت عطاء يقول : سمعت ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول : احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم ، ثم سمعته يقول : حدثني طاوس ، عن ابن عباس فقلت : لعله سمعه منها .

                                                                                                                                                                                                                                      حدثنا خالد بن مخلد ، حدثنا سليمان بن بلال ، عن علقمة بن أبي علقمة ، عن عبد الرحمن الأعرج ، عن ابن بحينة - رضي الله عنه - قال : " احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم بلحيي جمل في وسط رأسه " . انتهى من صحيح البخاري .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 97 ] وقال البخاري في كتاب " الطب " ، باب الحجم في السفر والإحرام : قاله ابن بحينة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                                                      حدثنا مسدد ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن طاوس ، وعطاء ، عن ابن عباس قال : " احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال البخاري في كتاب " الطب " أيضا : باب الحجامة على الرأس .

                                                                                                                                                                                                                                      حدثنا إسماعيل ، حدثني سليمان ، عن علقمة : أنه سمع عبد الرحمن الأعرج : أنه سمع عبد الله بن بحينة ، يحدث : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم بلحيي جمل من طريق مكة وهو محرم في وسط رأسه " وقال الأنصاري :

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا هشام بن حسان ، حدثنا عكرمة ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم في رأسه " وفي لفظ للبخاري ، عن ابن عباس قال : " احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - في رأسه وهو محرم من وجع كان به بماء يقال له : لحيي جمل . وفي لفظ له أيضا ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم في رأسه من شقيقة كانت به " انتهى منه . وحديث ابن عباس الذي ذكره البخاري : أخرجه مسلم أيضا ، عن طاوس ، وعطاء ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - بلفظ : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم " . وأخرج مسلم أيضا حديث ابن بحينة المذكور بلفظ : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم بطريق مكة وهو محرم وسط رأسه " ، ا هـ .

                                                                                                                                                                                                                                      فهذا الحديث المتفق عليه ، عن صحابيين جليلين وهما : عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن بحينة : صريح في جواز الحجامة للمحرم إن دعت إلى ذلك ضرورة وجع . والحديث المتفق عليه المذكور فيه أن الحجامة المذكورة كانت في الرأس .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن حجر في " الفتح " : وخالف ذلك حديث أنس فأخرج أبو داود والترمذي في الشمائل ، والنسائي ، وصححه ابن خزيمة ، وابن حبان من طريق معمر ، عن قتادة عنه قال : " احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم على ظهر القدم من وجع كان به " . ورجاله رجال الصحيح ، إلا أن أبا داود ، حكى عن أحمد أن سعيد بن أبي عروبة رواه عن قتادة ، فأرسله وسعيد أحفظ من معمر وليست هذه بعلة قادحة ، والجمع بين حديث ابن عباس ، وحديث أنس ، واضح بالحمل على التعدد أشار إلى ذلك الطبري . انتهى منه .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يخفى أن مثل هذا لا تعارض فيه ، وأنه احتجم مرة في الرأس ، ومرة على ظهر القدم كما لا يخفى . وقوله في الحديث المتفق عليه : " بلحيي جمل " هو بفتح اللام ، [ ص: 98 ] ويجوز كسرها وسكون الحاء وياء مثناة تحتية ، وفي بعض رواياته : بياءين بصيغة التثنية ، وجمل بفتح الجيم ، والميم . وقد جاء في الروايات ، أنه اسم موضع بين مكة والمدينة . وقال في " الفتح " : قال ابن وضاح : هي بقعة معروفة وهي عقبة الجحفة على سبعة أميال من السقيا ، ا هـ .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال صاحب " القاموس " : ولحى جمل موضع بين الحرمين ، وإلى المدينة أقرب . وزعم صاحب " القاموس " : أن السقيا بالضم : موضع بين المدينة ، ووادي الصفراء ، وما ظنه بعضهم : من أن المراد به أحد فكي الجمل الذي هو ذكر الإبل ، وأن فكه كان هو آلة الحجامة ، فهو غلط لا شك فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      فهذه النصوص التي ذكرنا لا يبقى معها شك في جواز الحجامة للمحرم الذي به وجع يحتاج إلى الحجامة .

                                                                                                                                                                                                                                      أما ما يلزم في ذلك فاختلفوا فيه : قال النووي في " شرح مسلم " : وفي هذا الحديث دليل لجواز الحجامة للمحرم . وقد أجمع العلماء على جوازها له في الرأس وغيره ، إذا كان له عذر في ذلك وإن قطع الشعر حينئذ ، لكن عليه الفدية لقطع الشعر ، فإن لم يقطع فلا فدية عليه ، ودليل المسألة قول ه تعالى : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية . وهذا الحديث محمول على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له عذر في الحجامة في وسط الرأس ; لأنه لا ينفك عن قطع شعر ، أما إذا أراد المحرم الحجامة لغير حاجة ، فإن تضمنت قلع شعر ، فهي حرام لتحريم قطع الشعر وإن لم تتضمن ذلك ، بأن كانت في موضع لا شعر فيه ، فهي جائزة عندنا .

                                                                                                                                                                                                                                      وعند الجمهور : ولا فدية فيها ، ووافق الجمهور سحنون ، من أصحاب مالك ، وعن ابن عمر ومالك كراهتها ، وعن الحسن البصري : فيها الفدية .

                                                                                                                                                                                                                                      دليلنا : أن إخراج الدم ليس حراما في الإحرام . انتهى منه .

                                                                                                                                                                                                                                      وما ذكره النووي ، عن ابن عمر ومالك : من كراهة الحجامة لغير عذر ، ذكره مالك في " الموطأ " ، عن نافع ، عن ابن عمر بلفظ : أنه كان يقول : " لا يحتجم المحرم إلا مما لا بد منه " وفيه قال مالك : لا يحتجم المحرم إلا من ضرورة ، ولا شك أنها إن أدت إلى قطع شعر من غير حاجة إليها أنها حرام ، وإن كانت لا تؤدي إلى قطع شعر ، فقد وجه المالكية كراهتها المذكورة ، عن مالك وابن عمر بأمرين :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 99 ] أحدهما : أن إخراج الدم من الحاج ، قد يؤدي إلى ضعفه ، كما كره صوم يوم عرفة للحاج ، مع أن الصوم أخف من الحجامة ، قالوا : فبطل استدلال المجيز ، بأنه لم يقم دليل على تحريم إخراج الدم في الإحرام ، لأنا لم نقل بالحرمة ، بل بالكراهة لعلة أخرى علمت . قاله : الزرقاني في " شرح الموطأ " .

                                                                                                                                                                                                                                      ومرادهم أن ضعفه بإخراج الدم منه ، قد يؤدي إلى عجزه عن إتمام بعض المناسك .

                                                                                                                                                                                                                                      الأمر الثاني : هو أن الحجامة إنما تكون في العادة ، بشد الزجاج ونحوه ، والمحرم ممنوع من العقد والشد على جسده . قاله : الشيخ سند .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحطاب في شرحه لقول خليل عاطفا على ما يكره : وحجامة بلا عذر - ما نصه : وأما مع العذر فتجوز ، فإن لم يزل بسببها شعرا ، ولم يقتل قملا فلا شيء عليه ، وإن أزال بسببها شعرا : فعليه الفدية . وذكر ابن بشير قولا بسقوطها قال في التوضيح : وهو غريب ، وإن قتل قملا ، فإن كان كثيرا ، فالفدية ، وإلا أطعم حفنة من طعام . والله سبحانه أعلم ، انتهى منه .

                                                                                                                                                                                                                                      والقول الذي ذكره ابن بشير من المالكية واستغربه خليل في التوضيح بسقوط الفدية مطلقا . ولو أزال بسبب الحجامة شعرا له وجه من النظر ، ولا يخلو عندي من قوة ، والله تعالى أعلم . وإيضاح ذلك أن جميع الروايات المصرحة : " بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - : احتجم في رأسه ، لم يرد في شيء منها أنه افتدى لإزالة ذلك الشعر من أجل الحجامة ، ولو وجبت عليه في ذلك فدية ، لبينها للناس ; لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز .

                                                                                                                                                                                                                                      والاستدلال على وجوب الفدية في ذلك بعموم قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية . لا ينهض كل النهوض ; لأن الآية واردة في حلق جميع الرأس ، لا في حلق بعضه ، وقد قدمنا أن حلق بعضه : ليس فيه نص صريح .

                                                                                                                                                                                                                                      ولذلك اختلف العلماء فيه ، فذهب الشافعي : إلى أن الفدية تلزم بحلق ثلاث شعرات فصاعدا . وذهب أحمد في إحدى الروايتين إلى ذلك ، وفي الأخرى : إلى لزومها بأربع شعرات ، وذهب أبو حنيفة : إلى لزومها بحلق الربع ، وذهب مالك : إلى لزومها بحلق ما فيه ترفه ، أو إماطة أذى ، وهذا الاختلاف يدل على عدم النص الصريح في حلق بعض [ ص: 100 ] الرأس ، فلا تتعين دلالة الآية على لزوم الفدية ، في من أزال شعرا قليلا ; لأجل تمكن آلة الحجامة من موضع الوجع ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وممن قال بأن إزالة الشعر عن موضع الحجامة لا فدية فيه : محمد وأبو يوسف صاحبا أبي حنيفة ، بل قالا : في ذلك صدقة ، وقد قدمنا مرارا : أن الصدقة عندهم نصف صاع من بر أو صاع كامل من غيره كتمر وشعير .

                                                                                                                                                                                                                                      والحاصل : أن أكثر أهل العلم منهم الأئمة الأربعة ، على أنه إن حلق الشعر لأجل تمكن آلة الحجامة ، لزمته الفدية على التفصيل المتقدم في قدر ما تلزم به الفدية ، من حلق الشعر كما تقدم إيضاحه . وأن عدم لزومها عندنا له وجه من النظر قوي ، وحكاه ابن بشير من المالكية . وأما إن لم يحلق بالحجامة شعرا ، فقد قدمنا قريبا أقوال أهل العلم فيها ، وتفصيلهم بين ما تدعو إليه الضرورة ، وبين غيره . والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      واستدل أهل العلم بأحاديث الحجامة المذكورة ، على جواز الفصد ، وربط الجرح ، والدمل ، وقلع الضرس ، والختان ، وقطع العضو ، وغير ذلك من وجوه التداوي ، إذ لم يكن في ذلك محظور : كالطيب ، وقطع الشعر .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الحك فإن كان في موضع لا شعر فيه فلا ينبغي أن يختلف في جوازه ، وإن كان في موضع فيه شعر كالرأس ، وكان برفق بحيث لا يحصل به نتف بعض الشعر فكذلك ، وإن كان بقوة بحيث يحصل به نتف بعض الشعر ، فالظاهر أنه لا يجوز .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا هو الصواب إن شاء الله في مسألة الحك . ولم أعلم في ذلك بشيء مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - . وإنما فيه بعض الآثار عن الصحابة - رضي الله عنهم - وقد قدمنا قول البخاري ، ولم ير ابن عمر وعائشة بالحك بأسا .

                                                                                                                                                                                                                                      وروى مالك في " الموطأ " عن علقمة بن أبي علقمة ، عن أمه أنها قالت : سمعت عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - تسأل عن المحرم ، أيحك جسده ؟ قالت : نعم فليحككه ، وليشدد ، ولو ربطت يداي ، ولم أجد إلا رجلي لحككت ، ا هـ .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما نزع القراد والحلمة من بعيره ، فقد أجازه عمر بن الخطاب ، وكرهه ابن عمر ومالك . وقد روى مالك في " الموطأ " عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن ربيعة بن أبي عبد الله بن الهدير : أنه رأى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقرد بعيرا له في طين بالسقيا ، وهو محرم . قال مالك : وأنا أكرهه . وروي أيضا في [ ص: 101 ] " الموطأ " عن نافع : أن عبد الله بن عمر كان يكره أن ينزع المحرم حلمة ، أو قرادا عن بعيره . قال مالك : وذلك أحب ما سمعت إلي في ذلك . وقوله : يقرد بعيره : أي ينزع عنه القراد ويرميه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما تضميد العين بالصبر ونحوه مما لا طيب فيه لضرورة الوجع فلا خلاف فيه بين العلماء ، وأنه لا فدية فيه ، كما أجمعوا على أنه إن دعته الضرورة إلى تضميد العين ونحوها بما فيه طيب . أن ذلك جائز له ، وعليه الفدية .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن أدلتهم على جواز تضميد العين بالصبر ونحوه : ما رواه مسلم في صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، وعمرو الناقد ، وزهير بن حرب جميعا ، عن ابن عيينة قال أبو بكر : حدثنا سفيان بن عيينة ، حدثنا أيوب بن موسى ، عن نبيه بن وهب قال : خرجنا مع أبان بن عثمان ، حتى إذا كنا بملل اشتكى عمر بن عبيد الله عينيه ، فلما كنا بالروحاء اشتد وجعه ، فأرسل إلى أبان بن عثمان يسأله ، فأرسل إليه : أن اضمدهما بالصبر ، فإن عثمان - رضي الله عنه - حدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرجل إذا اشتكى عينيه ، وهو محرم ضمدهما بالصبر . وفي لفظ عن مسلم : أن عمر بن عبيد الله بن معمر رمدت عينه ، فأراد أن يكحلها ، فنهاه أبان بن عثمان ، وأمره أن يضمدها بالصبر ، وحدث عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه فعل ذلك . انتهى من صحيح مسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما السواك في الإحرام ، فلا خلاف في جوازه بين أهل العلم .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره : وربط جرحه ما نصه : قال التادلي في مناسك ابن الحاج : وأجمع أهل العلم على أن للمحرم أن يتسوك ، وإن دمي فمه . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عرفة الشيخ : روى محمد والعتبي : للمحرم أن يتسوك ، ولو أدمى فاه انتهى ، ثم قال : قلت : لا يلزم من منع القاضي الزينة منع السواك بالجوزاء ونحوه . انتهى والله أعلم . انتهى كلام الحطاب .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية