الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      الشرط الثامن : هو ما اشترطه بعض أهل العلم من كونه لا يعد متمتعا ، حتى يحرم بالعمرة من الميقات ، فإن أحرم بها من دون الميقات صار غير متمتع ; لأنه كأنه من حاضري المسجد الحرام ، ولا يخفى سقوط هذا الشرط .

                                                                                                                                                                                                                                      قال صاحب " الإنصاف " : لما ذكر هذا الشرط ذكره أبو الفرج والحلواني وجزم به ابن عقيل في التذكرة ، وقدمه في الفروع . وقال القاضي وابن عقيل : وجزم به في المستوعب والتلخيص والرعاية وغيرهم : إن بقي بينه وبين مكة مسافة قصر ، فأحرم منه لم يلزمه دم المتعة ; لأنه من حاضري المسجد الحرام ، بل دم مجاوزة الميقات . واختار المصنف والشارح وغيرهما ، أنه إذا أحرم بالعمرة من دون الميقات : يلزمه دمان ، دم المتعة ودم الإحرام من دون الميقات ; لأنه لم يقم ولم ينوها به ، وليس بساكن ، وردوا ما قاله القاضي . انتهى منه ، وهذا الأخير هو الظاهر . والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال صاحب الإنصاف بعد كلامه هذا متصلا به .

                                                                                                                                                                                                                                      قال المصنف والشارح : ولو أحرم الآفاقي بعمرة في غير أشهر الحج ثم أقام بمكة واعتمر من التنعيم ، فهو متمتع نص عليه ، وفي نصه على هذه الصورة تنبيه على إيجاب الدم في الصورة الأولى بطريق الأولى . انتهى منه . ولا ينبغي أن يختلف في واحدة منهما لدخولهما صريحا في عموم آية التمتع ، كما ترى . والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن من يعتد به من أهل العلم : أجمعوا على أن القارن يلزمه ما يلزم المتمتع من الهدي ، والصوم عند العجز عن الهدي ، وقد قدمنا الروايات الصحيحة الثابتة عن بعض أجلاء الصحابة ، بأن القران داخل في اسم التمتع ، وعلى هذا فهو داخل في عموم الآية ، وكلا النسكين فيه تمتع لغة ; لأن التمتع من المتاع أو المتعة ، وهو الانتفاع أو النفع ومنه قوله :

                                                                                                                                                                                                                                      وقفت على قبر غريب بقفرة متاع قليل من حبيب مفارق



                                                                                                                                                                                                                                      جعل استئناسه بقبره متاعا لانتفاعه بذلك الاستئناس ، وكل من القارن والمتمتع ، انتفع بإسقاط أحد السفرين وانتفع القارن عند الجمهور باندراج أعمال العمرة في الحج .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال جماعة من أهل العلم : إن القران لم يدخل في عموم الآية بحسب مدلول لفظها ، وهو الأظهر ; لأن الغاية في قوله : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج تدل على [ ص: 128 ] ذلك ، والذين قالوا هذا قالوا : هو ملحق به في حكمه ; لأنه في معناه . وعلى أن القارن يلزمه ما يلزم المتمتع ، عامة العلماء ، منهم الأئمة الأربعة ، إلا من شذ شذوذا لا عبرة به . وليس كل خلاف جاء معتبرا إلا خلافا له وجه من النظر

                                                                                                                                                                                                                                      قال في " الإنصاف " : وسأله - يعني الإمام أحمد - ابن مشيش : القارن يجب عليه الدم وجوبا ؟ فقال : كيف يجب عليه وجوبا ، وإنما شبهوه بالمتمتع ، قال في الفروع ، فتتوجه منه رواية لا يلزمه دم . انتهى منه .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يخفى أن مذهب أحمد مخالف لما زعموه رواية ، وأن القارن كالمتمتع في الحكم . وقال ابن قدامة في " المغني " : ولا نعلم في وجوب الدم على القارن خلافا إلا ما حكي عن داود أنه لا دم عليه . وروي ذلك عن طاوس . وحكى ابن المنذر أن ابن داود لما دخل مكة ، سئل عن القارن هل يجب عليه دم ؟ فقال : لا ، فجر برجله ، وهذا يدل على شهرة الأمر بينهم . انتهى منه . وذكر النووي أن العبدري حكى هذا القول ، عن الحسن بن علي بن سريج . والتحقيق خلافه ، وأنه يلزمه ما يلزم المتمتع .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن النصوص الدالة على ذلك . حديث عائشة المتفق عليه ، وفيه : " فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر فقلت : ما هذا ؟ فقيل : نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أزواجه " متفق عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال المجد في " المنتقى " : وفيه دليل على الأكل من دم القران ; لأن عائشة كانت قارنة . انتهى منه . وهو يدل على أن القارن عليه دم . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن أصرح الأدلة في ذلك : ما رواه مسلم في صحيحه ، عن جابر بلفظ : " ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عائشة بقرة يوم النحر " ومعلوم أنها كانت قارنة ، على التحقيق فتلك البقرة دم قران ، وذلك دليل على لزومه ، وما ذكره ابن قدامة في " المغني " ، من أنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من قرن بين حجه وعمرته فليهرق دما " لم أعرف له أصلا ، والظاهر أنه لا يصح مرفوعا . والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأكثر أهل العلم : على أن القارن إن كان أهله حاضري المسجد الحرام ، أنه لا دم عليه ; لأنه متمتع أو في حكم المتمتع ، والله يقول : ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن قدامة في " المغني " ، وهو قول جمهور العلماء . وقال ابن الماجشون : عليه دم ; لأن الله تعالى أسقط الدم عن المتمتع ، وهذا ليس متمتعا ، وليس هذا بصحيح ، فإننا [ ص: 129 ] ذكرنا أنه متمتع ، وإن لم يكن متمتعا ، فهو مفرع عليه ، ووجوب الدم على القارن ، إنما كان بمعنى النص على التمتع ، فلا يجوز أن يخالف الفرع أصله . انتهى منه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : حاصل هذا الكلام أن القارن كالمتمتع في أن كلا منهما إن كان من حاضري المسجد الحرام ، لا دم عليه ، وذكر صاحب " المغني " أن ابن الماجشون خالف في ذلك ، وقال : عليه دم ، وله وجه قوي من النظر على قول الجمهور : أنه يكفيه طواف واحد وسعي واحد لحجه وعمرته . فقد انتفع بإسقاط عمل أحد النسكين ، ولزوم الدم في مقابل ذلك له وجه من النظر كما ترى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال النووي في " شرح المهذب " : قال أصحابنا : ولا يجب على حاضري المسجد الحرام دم القران ، كما لا يجب على المتمتع ، هذا هو المذهب ، وبه قطع الجمهور . وحكى الحناطي والرافعي وجها : أنه يلزمه . انتهى محل الغرض منه . وهذا الوجه عند الشافعية هو قول ابن الماجشون من المالكية ، كما ذكره صاحب " المغني " ، ومذهب مالك ، وأصحابه ، كمذهب الشافعي وأحمد ، في أن القارن إن كان من حاضري المسجد الحرام ، لا دم عليه ، وحاضروا المسجد عند مالك وأصحابه أهل مكة ، وذي طوى .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره : وشرط دمهما عدم إقامته بمكة أو ذي طوى . . . إلخ ، ما نصه : وذو طوى هو ما بين الثنية التي يهبط منها إلى مقبرة مكة المسماة بالمعلاة ، والثنية الأخرى التي إلى جهة الزاهر وتسمى عند أهل مكة بين الحجونين انتهى محل الغرض منه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قدمنا أن مذهب أبي حنيفة ، وأصحابه أن أهل مكة ونحوهم ممن دون الميقات : لا تشرع لهم العمرة أصلا فلا تمتع لهم ولا قران ، بناء على رجوع الإشارة في قوله : ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام لنفس التمتع ، كما تقدم إيضاحه ، مع أنهم يقولون : إنهم إن تمتعوا أو قرنوا أساءوا وانعقد إحرامهم ، ولزمهم دم الجبر ، وهذا الدم عندهم دم جناية لا يأكل صاحبه منه ، بخلاف دم التمتع والقران من غير حاضري المسجد الحرام ، فهو عندهم دم نسك ، يجوز لصاحبه الأكل منه ، ونقل بعض الحنفية عن ابن عمر وابن عباس ، وابن الزبير أن أهل مكة لا متعة لهم . وقد قدمنا أنه رأي البخاري .

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أنا قدمنا أن من شروط وجوب دم التمتع : ألا يرجع بعد العمرة إلى بلده أو مسافة مثله ، أو يسافر مسافة القصر على ما بينا هناك من أقوال الأئمة في ذلك ، وأردنا أن [ ص: 130 ] نذكر هنا حكم القارن إذا أتى بأفعال العمرة ، ثم رجع إلى بلده ، ثم حج من عامه ، أو سافر مسافة القصر ، ثم أحرم بالحج من الميقات ، هل يسقط عنه الدم بذلك كالتمتع أو لا ؟ . ومذهب أبي حنيفة أن الدم لا يسقط عنه برجوعه إلى بلده بعد إتيانه بأفعال العمرة ، إن رجع وحج ; لأنه لم يزل قارنا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال صاحب " الإنصاف " في الكلام على القارن : لا يلزم الدم حاضري المسجد الحرام ، كما قال المصنف : وقاله في الفروع وغيره ، وقال : والقياس أنه لا يلزم من سافر سفر قصر أو إلى الميقات ، إن قلنا به ، كظاهر مذهب الشافعي ، وكلامهم يقتضي لزومه ; لأن اسم القران باق بعد السفر ، بخلاف التمتع انتهـى منه .

                                                                                                                                                                                                                                      وحاصل كلامه أن ظاهر كلام الحنابلة أن السفر بعد وصول مكة ، لا يسقط دم القران ، وأن مقتضى القياس أنه يسقطه إلحاقا له بالتمتع ، وقال النووي في " شرح المهذب " : لو دخل القارن مكة قبل يوم عرفة ، ثم عاد إلى الميقات ، فالمذهب : أنه لا دم عليه في الإملاء ، وقطع به كثيرون أو الأكثرون ، وصححه الحناطي وآخرون . وقال إمام الحرمين : إن قلنا المتمتع إذا أحرم بالحج ثم عاد إليه لا يسقط عنه الدم فهنا أولى ، وإلا فوجهان : والفرق أن اسم القران لا يزول بالعود ، بخلاف التمتع ، ولو أحرم بالعمرة من الميقات ، ودخل مكة ، ثم رجع إلى الميقات قبل طوافه فأحرم بالحج ، فهو قارن .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الدارمي في آخر باب الفوات : إن قلنا إذا أحرم بهما جميعا ، ثم رجع سقط الدم فهنا أولى ، وإلا فوجهان . انتهى منه .

                                                                                                                                                                                                                                      وظاهر كلام خليل في مختصره المالكي أن السفر لا يسقط دم القران والحاصل : أنا بينا اختلاف أهل العلم في السفر بعد أفعال العمرة أو بعد دخول مكة ، هل يسقط دم القران أو لا ؟ وبينا قول صاحب " الإنصاف " أن سقوطه بالسفر ، هو مقتضى قياسه على التمتع .

                                                                                                                                                                                                                                      وأقرب الأقوال عندي للصواب أن دم القران لا يسقطه السفر ، وقد بينا أن الأحوط عندنا أن دم التمتع لا يسقطه السفر ; لتصريح القرآن بوجوب الهدي على المتمتع ، وعدم صراحة الآية في سقوطه بالسفر . وقد ذكرنا أن لزوم الدم للقارن الذي هو من حاضري المسجد الحرام له وجه من النظر ; لأنه اكتفى عن النسكين بعمل أحدهما على قول الجمهور ، كما تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 131 ] وأظهر قولي أهل العلم عندنا أن المكي إذا أراد الإحرام بالقران ، أحرم به من مكة ; لأنه يخرج في حجه إلى عرفة ، فيجمع بين الحل والحرم ، خلافا لمن قال : يلزم المكي إنشاء إحرامه من أدنى الحل وكذلك الآفاقي ، إذا كان في مكة ، وأراد أن يحرم قارنا ، فالأظهر أنه يحرم بالقران من مكة ، خلافا لمن قال : يحرم به من أدنى الحل لما بينا . والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية