الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " : ومن حجج القائلين بأن الشفق الحمرة ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - : " أنه صلى العشاء لسقوط القمر لثالثة الشهر " أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن العربي : وهو صحيح وصلى قبل غيبوبة الشفق .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن سيد الناس في " شرح الترمذي " : وقد علم كل من له علم بالمطالع والمغارب أن البياض لا يغيب إلا عند ثلث الليل الأول ، وهو الذي حد - صلى الله عليه وسلم - خروج أكثر الوقت به فصح يقينا أن وقتها داخل قبل ثلث الليل الأول بيقين ، فقد ثبت بالنص أنه داخل قبل مغيب الشفق الذي هو البياض فتبين بذلك يقينا أن الوقت دخل يقينا بالشفق الذي هو الحمرة . اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      وابتداء وقت العشاء مغيب الشفق إجماعا لما تقدم في حديث جبريل وحديث التعليم ، وهذا الحديث وغير ذلك انتهى منه بلفظه ، وهو دليل واضح على أن الشفق الحمرة لا البياض ، وفي " القاموس " الشفق الحمرة ولم يذكر البياض .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الخليل والفراء وغيرهما من أئمة اللغة : الشفق الحمرة وما روي عن الإمام أحمد رحمه الله من أن الشفق في السفر هو الحمرة وفي الحضر هو البياض الذي بعد الحمرة لا يخالف ما ذكرنا ; لأنه من تحقيق المناط لغيبوبة الحمرة التي هي الشفق عند أحمد وإيضاحه أن الإمام أحمد رحمه الله يقول : " الشفق هو الحمرة " والمسافر لأنه في الفلاة والمكان المتسع يعلم سقوط الحمرة ، أما الذي في الحضر فالأفق يستتر عنه بالجدران فيستظهر حتى يغيب البياض ليستدل بغيبوبته على مغيب [ ص: 303 ] الحمرة ، فاعتباره لغيبة البياض لدلالته على مغيب الحمرة لا لنفسه . اهـ . من " المغني " لابن قدامة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو حنيفة رحمه الله ومن وافقه : الشفق البياض الذي بعد الحمرة ، وقد علمت أن التحقيق أنه الحمرة ، وأما آخر وقت العشاء فقد جاء في بعض الروايات الصحيحة انتهاؤه عند ثلث الليل الأول ، وفي بعض الروايات الصحيحة نصف الليل ، وفي بعض الروايات الصحيحة ما يدل على امتداده إلى طلوع الفجر .

                                                                                                                                                                                                                                      فمن الروايات بانتهائه إلى ثلث الليل ، ما أخرجه البخاري في " صحيحه " عن عائشة رضي الله عنها : " كانوا يصلون العشاء فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول " .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي حديث أبي موسى ، وبريدة المتقدمين في تعليم من سأل عن مواقيت الصلاة عند مسلم وغيره : " أنه - صلى الله عليه وسلم - في الليلة الأولى أقام العشاء حين غاب الشفق ، وفي الليلة الثانية أخره حتى كان ثلث الليل الأول ، ثم قال : الوقت فيما بين هذين " .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي حديث جابر ، وابن عباس المتقدمين في إمامة جبريل : " أنه في الليلة الأولى صلى العشاء حين مغيب الشفق ، وفي الليلة الثانية صلاها حين ذهب ثلث الليل الأول وقال : الوقت فيما بين هذين الوقتين " ، إلى غير ذلك من الروايات الدالة على انتهاء وقت العشاء عند ذهاب ثلث الليل الأول .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن الروايات الدالة على امتداده إلى نصف الليل ، ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أنس رضي الله عنه قال : " أخر النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء إلى نصف الليل ، ثم صلى ، ثم قال : قد صلى الناس وناموا أما إنكم في صلاة ما انتظرتموها " . قال أنس : كأني أنظر إلى وبيص خاتمه ليلتئذ .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي حديث عبد الله بن عمرو المتقدم عند أحمد ، ومسلم ، والنسائي ، وأبي داود : " ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل " وفي بعض رواياته : " فإذا صليتم العشاء فإنه وقت إلى نصف الليل " .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن الروايات الدالة على امتداده إلى طلوع الفجر ما رواه أبو قتادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث طويل قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ليس في النوم تفريط ، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى " ، رواه مسلم في " صحيحه " .

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن عموم هذا الحديث مخصوص بإجماع المسلمين على أن وقت الصبح [ ص: 304 ] لا يمتد بعد طلوع الشمس إلى صلاة الظهر ، فلا وقت للصبح بعد طلوع الشمس إجماعا ، فإن قيل يمكن تخصيص حديث أبي قتادة هذا بالأحاديث الدالة على انتهاء وقت العشاء إلى نصف الليل .

                                                                                                                                                                                                                                      فالجواب : أن الجمع ممكن ، وهو واجب إذا أمكن وإعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما ، ووجه الجمع أن التحديد بنصف الليل للوقت الاختياري والامتداد إلى الفجر للوقت الضروري .

                                                                                                                                                                                                                                      ويدل لهذا : إطباق من ذكرنا سابقا من العلماء على أن الحائض إذا طهرت قبل الصبح بركعة صلت المغرب ، والعشاء ، ومن خالف من العلماء فيما ذكرنا سابقا ، إنما خالف في المغرب لا في العشاء ، مع أن الأثر الذي قدمنا في ذلك عن عبد الرحمن بن عوف ، وابن عباس لا يبعد أن يكون في حكم المرفوع ; لأن الموقوف الذي لا مجال للرأي فيه له حكم الرفع ، كما تقرر في علوم الحديث ، ومعلوم أن انتهاء أوقات العبادات كابتدائها لا مجال للرأي فيه ; لأنه تعبدي محض .

                                                                                                                                                                                                                                      وبهذا تعرف وجه الجمع بين ما دل على انتهائه بنصف الليل ، وما دل على امتداده إلى الفجر ، ولكن يبقى الإشكال بين روايات الثلث وروايات النصف ، والظاهر في الجمع والله تعالى أعلم أنه جعل كل ما بين الثلث والنصف وهو السدس ظرفا لآخر وقت العشاء الاختياري .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذن فلآخره أول وآخر وإليه ذهب ابن سريج من الشافعية ، وعلى أن الجمع بهذا الوجه ليس بمقنع فليس هناك طريق إلا الترجيح بين الروايات . فبعض العلماء رجح روايات الثلث بأنها أحوط في المحافظة على الوقت المختار وبأنها محل وفاق لاتفاق الروايات على أن من صلى العشاء قبل الثلث فهو مؤد صلاته في وقتها الاختياري ، وبعضهم رجح روايات النصف بأنها زيادة صحيحة ، وزيادة العدل مقبولة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما أول وقت صلاة الصبح فهو عند طلوع الفجر الصادق بإجماع المسلمين وهو الفجر الذي يحرم الطعام والشراب على الصائم .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي حديث أبي موسى ، وبريدة المتقدمين عند مسلم وغيره : " وأمر بلالا فأقام الفجر حين انشق الفجر ، والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضا " الحديث .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي حديث جابر المتقدم ، في إمامة جبريل أيضا : " ثم صلى الفجر حين برق [ ص: 305 ] الفجر ، وحرم الطعام على الصائم " ، ومعلوم أن الفجر فجران كاذب وصادق ، فالكاذب لا يحرم الطعام على الصائم ، ولا تجوز به صلاة الصبح ، والصادق بخلاف ذلك فيهما ، وأما آخر وقت صلاة الصبح فقد جاء في بعض الروايات تحديده بالإسفار ، وجاء في بعضها امتداده إلى طلوع الشمس ، فمن الروايات الدالة على انتهائه بالإسفار ما في حديث جابر المذكور آنفا : " ثم جاءه حين أسفر جدا فقال : قم فصله فصلى الفجر " .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي حديث ابن عباس المتقدم آنفا : " ثم صلى الصبح حين أسفرت الأرض " الحديث . وهذا في بيانه لآخر وقت الصبح المختار في اليوم الثاني .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي حديث أبي موسى وبريدة المتقدمين عند مسلم وغيره : " ثم أخر الفجر من الغد حتى انصرف منها والقائل يقول : طلعت الشمس أو كادت " .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن الروايات الدالة على امتداده إلى طلوع الشمس ما أخرجه مسلم في " صحيحه " وغيره من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما : " ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس " .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي رواية لمسلم : " ووقت الفجر ما لم يطلع قرن الشمس الأول " ، والظاهر في وجه الجمع بين هذه الروايات أن الوقت المنتهي إلى الإسفار هو وقت الصبح الاختياري ، والممتد إلى طلوع الشمس وقتها الضروري ، وهذا هو مشهور مذهب مالك .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعض المالكية : لا ضروري للصبح فوقتها كله إلى طلوع الشمس وقت اختيار ، وعليه فوجه الجمع هو ما قدمنا عن ابن سريج في الكلام على آخر وقت العشاء ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      فهذا الذي ذكرنا هو تفصيل الأوقات الذي أجمل في قوله تعالى : إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا [ 4 ] ، وبين بعض البيان في قوله تعالى : أقم الصلاة لدلوك الشمس الآية [ 17 \ 78 ] ، وقوله : وأقم الصلاة طرفي النهار الآية [ 11 \ 114 ] ، وقوله : فسبحان الله حين تمسون الآية [ 30 \ 17 ] ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية