الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وجهة نظر .

                                                                                                                                                                                                                                      وبالتحقيق في هذه المسألة وإثارة النزاع فيها ، يظهر أن النزاع والجدال فيها أكثر مما كانت تحتمل ، وهو إلى الشكلي أقرب منه إلى الحقيقي . ولا وجود له عمليا .

                                                                                                                                                                                                                                      وتحقيق ذلك كالآتي : وهو ما داموا متفقين على شد الرحال للمسجد النبوي للسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومتفقون على السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدون شد الرحال ; فلن يتأتى لإنسان أن يشد الرحال للسلام دون المسجد ، ولا يخطر ذلك على بال إنسان ، وكذلك شد الرحل للصلاة في المسجد النبوي دون أن يسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لن يخطر على بال إنسان . وعليه فلا انفكاك لأحدهما عن الآخر ; لأن المسجد النبوي ما هو إلا بيته - صلى الله عليه وسلم - ، وهل بيته إلا جزء من المسجد كما في حديث الروضة : " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة " .

                                                                                                                                                                                                                                      فهذا قوة ربط بين بيته ومنبره في مسجده .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ناحية أخرى : هل يسلم أحد عليه - صلى الله عليه وسلم - من قريب ، لينال فضل رد السلام عليه منه - صلى الله عليه وسلم - ، إلا إذا كان سلامه عن قرب ومن المسجد نفسه ؟

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 343 ] وهل تكون الزيارة سنية إلا إذا دخل المسجد وصلى أولا تحية المسجد ؟

                                                                                                                                                                                                                                      وبهذا ; فلا انفكاك لشد الرحل إلى المسجد عن زيارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولا لزيارته - صلى الله عليه وسلم - عن المسجد ، فلا موجب لهذا النزاع .

                                                                                                                                                                                                                                      وهنا وجهة نظر أخرى وهي : أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي ، فأرد عليه السلام " . فإن إطلاقه عن كل قيد من قرب أو بعد مما يدل على العموم من حيث المجيء للسلام عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      فيقال : إن هذه فضيلة عظيمة ، ولا يتأتى للبعيد تحصيلها إلا بشد الرحال إليها كوسيلة لتحصيلها ، والوسيلة تأخذ حكم الغاية من وجوب أو ندب أو إباحة ، كالسعي إلى الجمعة واجب ; لأن أداء الجمعة واجب ، وإعداد الثياب الجميلة إليها مثلا مندوب ; لأن التجمل إليها مندوب ، ومثله إعداد الطيب بالنسبة لحضورها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد رأيت لابن تيمية مناقشة هذه المسألة ، ولكنه جاء بأمثلة قابلة هي للنقاش ، فقال : ليس كل غاية مشروعة تكون وسيلتها مشروعة ، كحج المرأة وخروجها إلى المسجد ، فإن الأول مشروط فيه وجود المحرم . والثاني : مشروط فيه إذن الزوج .

                                                                                                                                                                                                                                      والنقاش لها أن سفر المرأة مطلقا ممنوع إلا مع المحرم ، سواء كان لهذا المسجد وللحج أو لغيره .

                                                                                                                                                                                                                                      وخروجها إلى المسجد ليس بمطلوب منها في الأصل ، ولكن إذا طلبت الإذن يؤذن لها . فالأصل فيه المنع حتى تحصل على الإذن .

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى هذا يقال : لو كان شد الرحل إليها غير مشروع ، لما كان لفاعله نصيب في فضلها ، ولا يحصل على رد السلام منه - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                                                      ولو كان كذلك للزم التنبيه عليه عند بيان فضيلته ; لعدم تأخير البيان ، فكأن يقال مثلا : فأرد عليه السلام ، إلا من شد الرحل لذلك . أو يقال : من أتاني من قريب فسلم علي . . . إلخ . ولكن لم يأت شيء من هذا التنبيه وبقي الحديث على عمومه .

                                                                                                                                                                                                                                      وليعلم أن ابن تيمية - رحمه الله - يفرق بين السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين عامة المسلمين ، لما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حقوق وخصائص ليست لغيره من : وجوب محبة ، وتعظيم ، وفرضية صلاة ، [ ص: 344 ] وتسليم في صلواتنا ، وعند دخول المساجد والخروج منها ، بل وعند سماع ذكره مما ليس لغيره قط .

                                                                                                                                                                                                                                      كما أن زيارة غيره - صلى الله عليه وسلم - للدعاء له والترحم عليه ، بينما زيارته - صلى الله عليه وسلم - والسلام عليه ; ليرد الله تعالى عليه روحه فيرد علينا السلام .

                                                                                                                                                                                                                                      وزيارة غيره في أي مكان من العالم لا مزية له ، بينما زيارته - صلى الله عليه وسلم - من مسجده وقد خص بما لم يختص به غيره .

                                                                                                                                                                                                                                      وأعتقد أن هذه المسألة لولا نزاع معاصري ابن تيمية معه في غيرها لما كان لها محل ولا مجال .

                                                                                                                                                                                                                                      ولكنهم وجدوها حساسة ولها مساس بالعاطفة ، ومحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأثاروها وحكموا عليه بالالتزام . أي : يلازم كلامه حينما قال :

                                                                                                                                                                                                                                      لا يكون شد الرحال لمجرد الزيارة ، بل تكون للمسجد من أجل الزيارة ، عملا بنص الحديث ، فتقولوا عليه ما لم يقله صراحة . ولو حمل كلامه على النفي بدلا من النهي لكان موافقا ، أي : لا يتأتى ذلك ; لأنه لم يمنع زيارته - صلى الله عليه وسلم - ولا السلام عليه ، بل يجعلها من الفضائل والقربات ، وإنما يلتزم بنص الحديث في جعل شد الرحال إلى المسجد ، ولكل شيء ومنه السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما صرح بذلك في كتبه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال في بعض رسائله وردوده ما نصه :

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية