الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض [ الآية ] ، صرح في هذه الآية الكريمة أنه كتب على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ، ولم يتعرض هنا لحكم من قتل نفسا بنفس ، أو بفساد في الأرض ، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر ، فبين أن قتل النفس بالنفس جائز ، في قوله : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس الآية [ 5 \ 45 ] ، وفي قوله : كتب عليكم القصاص في القتلى الآية [ 2 \ 187 ] ، وقوله : ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا الآية [ 17 \ 33 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن آيات القصاص في النفس فيها إجمال بينته السنة ، وحاصل تحرير المقام فيها أن الذكر الحر المسلم يقتل بالذكر الحر المسلم إجماعا ، وأن المرأة كذلك تقتل بالمرأة كذلك إجماعا ، وأن العبد يقتل كذلك بالعبد إجماعا ، وإنما لم نعتبر قول عطاء باشتراط تساوي قيمة العبدين ، وهو رواية عن أحمد ، ولا قول ابن عباس : ليس بين العبيد قصاص ، لأنهم أموال ; لأن ذلك كله يرده صريح قوله تعالى : كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد الآية ، وأن المرأة تقتل بالرجل ، لأنها إذا قتلت بالمرأة ، فقتلها بالرجل أولى ، وأن الرجل يقتل بالمرأة عند جمهور العلماء فيهما .

                                                                                                                                                                                                                                      وروي عن جماعة منهم علي ، والحسن ، وعثمان البتي ، وأحمد في رواية عنه أنه لا يقتل بها حتى يلتزم أولياؤها قدر ما تزيد به ديته على ديتها ; فإن لم يلتزموه أخذوا ديتها .

                                                                                                                                                                                                                                      وروي عن علي ، والحسن : أنها إن قتلت رجلا قتلت به ، وأخذ أولياؤه أيضا زيادة ديته على ديتها ، أو أخذوا دية المقتول واستحيوها .

                                                                                                                                                                                                                                      قال القرطبي ، بعد أن ذكر هذا الكلام عن علي رضي الله عنه ، والحسن البصري ، وقد أنكر ذلك عنهم أيضا : روى هذا الشعبي عن علي ، ولا يصح لأن الشعبي لم يلق عليا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد روى الحكم ، عن علي ، وعبد الله ، أنهما قالا : إذا قتل الرجل المرأة متعمدا [ ص: 373 ] فهو بها قود ، وهذا يعارض رواية الشعبي عن علي ; وقال ابن حجر في " فتح الباري " في باب : " سؤال القاتل حتى يقر " والإقرار في الحدود ، بعد أن ذكر القول المذكور عن علي والحسن : ولا يثبت عن علي ، ولكن هو قول عثمان البتي أحد فقهاء البصرة ، ويدل على بطلان هذا القول أنه ذكر فيه ، أن أولياء الرجل إذا قتلته امرأة يجمع لهم بين القصاص ونصف الدية ، وهذا قول يدل الكتاب والسنة على بطلانه ، وأنه إما القصاص فقط ، وإما الدية فقط ; لأنه تعالى قال : كتب عليكم القصاص في القتلى ، ثم قال : فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف الآية ، فرتب الاتباع بالدية على العفو دون القصاص .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال - صلى الله عليه وسلم - : " من قتل له قتيل فهو بخير النظرين " الحديث ، وهو صريح في عدم الجمع بينهما ، كما هو واضح عند عامة العلماء ; وحكي عن أحمد في رواية عنه ، وعثمان البتي ، وعطاء ، أن الرجل لا يقتل بالمرأة ، بل تجب الدية ، قاله ابن كثير ، وروي عن الليث والزهري ، أنها إن كانت زوجته لم يقتل بها ، وإن كانت غير زوجته قتل بها .

                                                                                                                                                                                                                                      والتحقيق قتله بها مطلقا ; كما سترى أدلته ، فمن الأدلة على قتل الرجل بالمرأة إجماع العلماء على أن الصحيح السليم الأعضاء إذا قتل أعور أو أشل ، أو نحو ذلك عمدا ، وجب عليه القصاص ، ولا يجب لأوليائه شيء في مقابلة ما زاد به من الأعضاء السليمة على المقتول .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن الأدلة على قتل الرجل بالمرأة ، ما ثبت في الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث أنس : " أنه - صلى الله عليه وسلم - رض رأس يهودي بالحجارة قصاصا بجارية فعل بها كذلك " ، وهذا الحديث استدل به العلماء على قتل الذكر بالأنثى ، وعلى وجوب القصاص في القتل بغير المحدد ، والسلاح .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال البيهقي في " السنن الكبرى " في باب " قتل الرجل بالمرأة " : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، ثنا أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري ، ثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم العبدي ، ثنا الحكم بن موسى القنطري ، ثنا يحيى بن حمزة ، عن سليمان بن داود ، عن الزهري ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن أبيه ، عن جده ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أنه كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض ، والسنن ، والديات ، وبعث به مع عمرو بن حزم ، وكان فيه ، وإن الرجل يقتل بالمرأة " .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 374 ] وروى هذا الحديث موصولا أيضا النسائي ، وابن حبان ، والحاكم ، وفي تفسير ابن كثير ما نصه : وفي الحديث الذي رواه النسائي ، وغيره : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب في كتاب عمرو بن حزم أن الرجل يقتل بالمرأة " ، وكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا لعمرو بن حزم الذي فيه أن الرجل يقتل بالمرأة ، رواه مالك ، والشافعي ، ورواه أيضا الدارقطني ، وأبو داود ، وابن حبان ، والحاكم ، والدارمي ، وكلام علماء الحديث في كتاب عمرو بن حزم هذا مشهور بين مصحح له ، ومضعف ; وممن صححه : ابن حبان ، والحاكم ، والبيهقي ، وعن أحمد أنه قال : أرجو أن يكون صحيحا . وصححه أيضا - من حيث الشهرة ، لا من حيث الإسناد - جماعة منهم الشافعي فإنه قال : لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عبد البر : هو كتاب مشهور عند أهل السير ، معروف ما فيه عند أهل العلم ، يستغني بشهرته عن الإسناد ; لأنه أشبه المتواتر لتلقي الناس له بالقبول ، قال : ويدل على شهرته ما روى ابن وهب ، عن مالك ، عن الليث بن سعد ، عن يحيى بن سعد ، عن سعيد بن المسيب قال : وجد كتاب عند آل حزم يذكرون أنه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال العقيلي : هذا حديث ثابت محفوظ ، وقال يعقوب بن سفيان : لا أعلم في جميع الكتب المنقولة كتابا أصح من كتاب عمرو بن حزم هذا ، فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين ، يرجعون إليه ، ويدعون رأيهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحاكم : قد شهد عمر بن عبد العزيز ، وإمام عصره الزهري بالصحة لهذا الكتاب ، ثم ساق ذلك بسنده إليهما ، وضعف كتاب ابن حزم هذا جماعة ، وانتصر لتضعيفه أبو محمد بن حزم في محلاه .

                                                                                                                                                                                                                                      والتحقيق : صحة الاحتجاج به ; لأنه ثبت أنه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتبه ليبين به أحكام الديات ، والزكوات ، وغيرها ، ونسخته معروفة في كتب الفقه .

                                                                                                                                                                                                                                      والحديث : ولا سيما عند من يحتج بالمرسل كمالك ، وأبي حنيفة ، وأحمد في أشهر الروايات .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن أدلة قتله بها عموم حديث : " المسلمون تتكافأ دماؤهم " الحديث ، وسيأتي البحث فيه إن شاء الله ، ومن أوضح الأدلة في قتل الرجل بالمرأة قوله تعالى : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس الآية [ 5 \ 45 ] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يحل دم امرئ مسلم [ ص: 375 ] يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس " الحديث ، أخرجه الشيخان ، وباقي الجماعة ، من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      فعموم هذه الآية الكريمة ، وهذا الحديث الصحيح يقتضي قتل الرجل بالمرأة ، لأنه نفس بنفس ، ولا يخرج عن هذا العموم ، إلا ما أخرجه دليل صالح لتخصيص النص به ، نعم يتوجه على هذا الاستدلال سؤالان :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : ما وجه الاستدلال بقوله تعالى : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس الآية ، مع أنه حكاية عن قوم موسى ، والله تعالى يقول : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا [ 5 \ 48 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      السؤال الثاني : لم لا يخصص عموم قتل النفس بالنفس في الآية والحديث المذكورين بقوله تعالى : الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى [ 2 \ 178 ] ; لأن هذه الآية أخص من تلك ، لأنها فصلت ما أجمل في الأولى ، ولأن هذه الأمة مخاطبة بها صريحا في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      الجواب عن السؤال الأول : أن التحقيق الذي عليه الجمهور ، ودلت عليه نصوص الشرع : أن كل ما ذكر لنا في كتابنا ، وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - مما كان شرعا لمن قبلنا أنه يكون شرعا لنا ، من حيث إنه وارد في كتابنا ، أو سنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - لا من حيث إنه كان شرعا لمن قبلنا ; لأنه ما قص علينا في شرعنا إلا لنعتبر به ، ونعمل بما تضمن .

                                                                                                                                                                                                                                      والنصوص الدالة على هذا كثيرة جدا ، ولأجل هذا أمر الله في القرآن العظيم في غير ما آية بالاعتبار بأحوالهم ، ووبخ من لم يعقل ذلك ، كما في قوله تعالى في قوم لوط : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون [ 37 \ 137 ، 138 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      في قوله : أفلا تعقلون توبيخ لمن مر بديارهم ، ولم يعتبر بما وقع لهم ، ويعقل ذلك ليجتنب الوقوع في مثله ، وكقوله تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم ، ثم هدد الكفار بمثل ذلك ، فقال : وللكافرين أمثالها [ 47 \ 10 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 376 ] وقال في حجارة قوم لوط التي أهلكوا بها ، أو ديارهم التي أهلكوا فيها : وما هي من الظالمين ببعيد [ 11 \ 83 ] ، وهو تهديد عظيم منه تعالى لمن لم يعتبر بحالهم ، فيجتنب ارتكاب ما هلكوا بسببه ، وأمثال ذلك كثير في القرآن .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال تعالى : لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب [ 12 \ 111 ] ، فصرح بأنه يقص قصصهم في القرآن للعبرة ، وهو دليل واضح لما ذكرنا ، ولما ذكر الله تعالى من ذكر من الأنبياء في سورة الأنعام ، قال لنبينا - صلى الله عليه وسلم - : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ 6 \ 90 ] ، وأمره - صلى الله عليه وسلم - أمر لنا ; لأنه قدوتنا ، ولأن الله تعالى يقول : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة الآية [ 33 \ 21 ] ، ويقول : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني الآية [ 3 \ 31 ] ، ويقول : وما آتاكم الرسول فخذوه الآية [ 59 \ 7 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      ويقول : من يطع الرسول فقد أطاع الله الآية [ 4 \ 80 ] ، ومن طاعته اتباعه فيما أمر به كله ، إلا ما قام فيه دليل على الخصوص به - صلى الله عليه وسلم - وكون شرع من قبلنا الثابت بشرعنا شرعا لنا ، إلا بدليل على النسخ هو مذهب الجمهور ، منهم مالك ، وأبو حنيفة ، وأحمد في أشهر الروايتين ، وخالف الإمام الشافعي - رحمه الله - في أصح الروايات عنه ، فقال : إن شرع من قبلنا الثابت بشرعنا ليس شرعا لنا ، إلا بنص من شرعنا على أنه مشروع لنا ، وخالف أيضا في الصحيح عنه في أن الخطاب الخاص بالرسول - صلى الله عليه وسلم - يشمل حكمه الأمة ; واستدل للأول بقوله تعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ، وللثاني : بأن الصيغة الخاصة بالرسول لا تشمل الأمة وضعا ، فإدخالها فيها صرف للفظ عن ظاهره ، فيحتاج إلى دليل منفصل ، وحمل الهدى في قوله : فبهداهم اقتده ، والدين في قوله : شرع لكم من الدين الآية [ 42 \ 13 ] على خصوص الأصول التي هي التوحيد دون الفروع العملية ; لأنه تعالى قال في العقائد : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [ 21 \ 25 ] ، وقال : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [ 16 \ 36 ] ، وقال : واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون [ 43 \ 45 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال في الفروع العملية : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ، فدل ذلك على اتفاقهم في الأصول ، واختلافهم في الفروع ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " إنا معشر الأنبياء إخوة لعلات ديننا واحد " ، أخرجه البخاري في صحيحه ، من حديث أبي هريرة - رضي الله [ ص: 377 ] عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه - وغفر له : أما حمل الهدى في آية فبهداهم اقتده ، والدين في آية شرع لكم من الدين ، على سبيل التوحيد دون الفروع العملية ، فهو غير مسلم ، أما الأول فلما أخرجه البخاري في صحيحه ، في تفسير سورة " ص " ، عن مجاهد : " أنه سأل ابن عباس : من أين أخذت السجدة في " ص " ، فقال : أو ما تقرأ : ومن ذريته داود ، إلى قوله تعالى : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ 6 \ 84 و 90 ] ، فسجدها داود ، فسجدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                                                      فهذا نص صحيح صريح عن ابن عباس ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أدخل سجود التلاوة في الهدى في قوله : فبهداهم اقتده ، ومعلوم أن سجود التلاوة فرع من الفروع لا أصل من الأصول .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الثاني : فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صرح في حديث جبريل الصحيح المشهور أن اسم الدين يتناول الإسلام ، والإيمان ، والإحسان ، حيث قال : " هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم " ، وقال تعالى : إن الدين عند الله الإسلام [ 3 \ 19 ] ، وقال : ومن يبتغ غير الإسلام دينا [ 3 \ 85 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وصرح - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المذكور بأن الإسلام يشمل الأمور العملية ، كالصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج ، وفي حديث ابن عمر المتفق عليه : " بني الإسلام على خمس " الحديث ، ولم يقل أحد إن الإسلام هو خصوص العقائد ، دون الأمور العملية ، فدل على أن الدين لا يختص بذلك في قوله : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا الآية ، وهو ظاهر جدا ; لأن خير ما يفسر به القرآن هو كتاب الله ، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الخطاب الخاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في نحو قوله : فبهداهم اقتده ، فقد دلت النصوص على شمول حكمه للأمة ، كما في قوله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة الآية ، إلى غيرها مما تقدم من الآيات ، وقد علمنا ذلك من استقراء القرآن العظيم حيث يعبر فيه دائما بالصيغة الخاصة به - صلى الله عليه وسلم - ثم يشير إلى أن المراد عموم حكم الخطاب للأمة ، كقوله في أول سورة الطلاق : ياأيها النبي [ 65 \ 1 ] ، ثم قال : إذا طلقتم النساء الآية ، فدل على دخول الكل حكما تحت قوله : ياأيها النبي ، وقال في سورة التحريم : ياأيها النبي لم تحرم [ 66 \ 1 ] ، ثم قال : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم [ 66 \ 2 ] ; [ ص: 378 ] فدل على عموم حكم الخطاب بقوله : يا أيها النبي ، ونظير ذلك أيضا في سورة الأحزاب ، في قوله تعالى : ياأيها النبي اتق الله [ 33 \ 1 ] ، ثم قال : إن الله كان بما تعملون خبيرا [ 4 \ 94 ] ، فقوله : بما تعملون ، يدل على عموم الخطاب بقوله : يا أيها النبي ، وكقوله : وما تكون في شأن [ 10 \ 61 ] ، ثم قال : ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن أصرح الأدلة في ذلك آية الروم ، وآية الأحزاب ، أما آية الروم فقوله تعالى : فأقم وجهك للدين حنيفا [ 30 \ 30 ] ، ثم قال : منيبين إليه [ 30 \ 31 ] ، وهو حال من ضمير الفاعل المستتر ، المخاطب به النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله : فأقم وجهك ، الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وتقرير المعنى : فأقم وجهك يا نبي الله ، في حال كونكم منيبين ، فلو لم تدخل الأمة حكما في الخطاب الخاص به - صلى الله عليه وسلم - لقال : منيبا إليه ، بالإفراد ، لإجماع أهل اللسان العربي على أن الحال الحقيقية ، أعني التي لم تكن سببية ، تلزم مطابقتها لصاحبها ، إفرادا ، وجمعا ، وتثنية ، وتأنيثا ، وتذكيرا ، فلا يجوز أن تقول : جاء زيد ضاحكين ، ولا جاءت هند ضاحكات ، وأما آية الأحزاب ، فقوله تعالى في قصة زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها [ 33 \ 37 ] ، فإن هذا الخطاب خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية