الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      تنبيه

                                                                                                                                                                                                                                      جعل بعض العلماء منشأ الخلاف في سلب القاتل ، هل يحتاج إلى تنفيذ الإمام أو لا ؟ هو الاختلاف في قول النبي صلى الله عليه وسلم : " من قتل قتيلا " الحديث ، هل هو حكم ؟ وعليه فلا يعم بل يحتاج دائما إلى تنفيذ الإمام ، أو هو فتوى ؟ فيكون حكما عاما غير محتاج إلى تنفيذ الإمام .

                                                                                                                                                                                                                                      قال صاحب " نشر البنود شرح مراقي السعود " في شرح قوله : [ الرجز ]

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 87 ]

                                                                                                                                                                                                                                      وسائر حكاية الفعل بما


                                                                                                                                                                                                                                      منه العموم ظاهرا قد علما

                                                                                                                                                                                                                                      ما نصه : تنبيه : حكى ابن رشيد خلافا بين العلماء ، في قوله صلى الله عليه وسلم : " من قتل قتيلا له عليه بينة ، فله سلبه " ، هل يحتاج سلب القتيل إلى تنفيذ الإمام ، بناء على أن الحديث حكم فلا يعم ، أو لا يحتاج إليه بناء على أنه فتوى ؟ وكذا قوله لهند : " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " فيه خلاف ، هل هو حكم فلا يعم ، أو فتوى فيعم .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ميارة في " التكميل " : [ الرجز ]


                                                                                                                                                                                                                                      وفي حديث هند الخلاف : هل


                                                                                                                                                                                                                                      حكم يخصها أو افتاء شمل

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن العلماء اختلفوا في السلب ، هل يخمس أو لا ؟ على ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : لا يخمس .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : يخمس .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : إن كان كثيرا خمس ، وإلا فلا .

                                                                                                                                                                                                                                      وممن قال : إنه لا يخمس : الشافعي ، وأحمد ، وابن المنذر ، وابن جرير ، ويروى عن سعد بن أبي وقاص .

                                                                                                                                                                                                                                      وممن روي عنه أنه يخمس : ابن عباس ، والأوزاعي ، ومكحول .

                                                                                                                                                                                                                                      وممن فرق بين القليل والكثير : إسحاق ، واحتج من قال : لا يخمس بما رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، وابن حبان ، والطبراني ، عن عوف بن مالك ، وخالد بن الوليد رضي الله عنهما ; أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخمس السلب .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال القرطبي في " تفسيره " ، بعد أن ساق حديث عوف بن مالك الذي قدمنا عند مسلم ما نصه : " وأخرجه أبو بكر البرقاني بإسناده ، الذي أخرجه به مسلم ، وزاد بيانا أن عوف بن مالك ، قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يخمس السلب " اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن حجر في " التلخيص " في حديث خالد وعوف المتقدم ، ما لفظه : " وهو ثابت في " صحيح مسلم " في حديث طويل فيه قصة لعوف مع خالد بن الوليد ، وتعقبه الشوكاني في " نيل الأوطار " بما نصه : وفيه نظر ؛ فإن هذا اللفظ الذي هو محل الحجة لم يكن في صحيح مسلم ، بل الذي فيه هو ما سيأتي قريبا ، وفي إسناد هذا الحديث إسماعيل بن عياش ، وفيه كلام معروف قد تقدم ذكره مرارا " ، اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 88 ] قال مقيده عفا الله عنه : وقد قدمنا حديث عوف المذكور بلفظ مسلم في صحيحه ، وليس فيه ما ذكره الحافظ بن حجر ، فهو وهم منه ، كما نبه عليه الشوكاني رحمهما الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      والتحقيق في إسماعيل بن عياش أن روايته عن غير الشاميين ضعيفة ، وهو قوي في الشاميين ، دون غيرهم .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده عفا الله عنه : وهذا الحديث من رواية إسماعيل بن عياش ، عن صفوان بن عمرو ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن أبيه ، عن عوف بن مالك ، وإسماعيل ، وشيخه في هذا الحديث ، الذي هو صفوان بن عمرو ، كلاهما حمصي ، فهو بلدي له :

                                                                                                                                                                                                                                      وبه تعلم صحة الاحتجاج بالحديث المذكور ، مع قوة شاهده ، الذي قدمنا عن أبي بكر البرقاني ، بسند على شرط مسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      واحتج من قال بأن السلب يخمس : بعموم قوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      واحتج من قال : يخمس الكثير دون اليسير : بما رواه أنس ، عن البراء بن مالك أنه قتل من المشركين مائة رجل ، إلا رجلا مبارزة ، وأنهم لما غزوا الزارة ، خرج دهقان الزارة ، فقال : رجل ورجل ، فبرز البراء فاختلفا بسيفيهما ، ثم اعتنقا فتوركه البراء فقعد على كبده ، ثم أخذ السيف فذبحه ، وأخذ سلاحه ومنطقته ، وأتى به عمر ، فنفله السلاح ، وقوم المنطقة بثلاثين ألفا ، فخمسها ، وقال : إنها مال . اهـ بنقل القرطبي .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال قبل هذا : وفعله عمر بن الخطاب مع البراء بن مالك ، حين بارز " المرزبان " فقتله ، فكانت قيمة منطقته ، وسواريه ثلاثين ألفا ، فخمس ذلك اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن قدامة في " المغني " : وقال إسحاق : إن استكثر الإمام السلب ، فذلك إليه ، لما روى ابن سيرين أن البراء بن مالك بارز " مرزبان " الزارة بالبحرين فطعنه ، فدق صلبه ، وأخذ سواريه ، وسلبه ، فلما صلى عمر الظهر أتى أبا طلحة في داره ، فقال : إنا كنا لا نخمس السلب ، وإن سلب البراء قد بلغ مالا ، وأنا خامسه ، فكان أول سلب خمس في الإسلام سلب البراء ، رواه سعيد في السنن .

                                                                                                                                                                                                                                      وفيها أن سلب البراء بلغ ثلاثين ألفا .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 89 ] قال مقيده عفا الله عنه : أظهر الأقوال دليلا عندي أن السلب لا يخمس لحديث عوف وخالد المتقدم ، ويجاب عن أخذ الخمس من سلب البراء بن مالك ، بأن الذي تدل عليه القصة أن السلب لا يخمس ; لأن قول عمر : إنا كنا لا نخمس السلب ، وقول الراوي كان أول سلب خمس في الإسلام : يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبا بكر ، وعمر صدرا من خلافته لم يخمسوا سلبا ، واتباع ذلك أولى .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الجوزجاني : لا أظنه يجوز لأحد في شيء سبق فيه من الرسول صلى الله عليه وسلم شيء إلا اتباعه ، ولا حجة في قول أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن قدامة في " المغني " ، والأدلة التي ذكرنا يخصص بها عموم قوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم الآية [ 8 \ 41 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف العلماء فيما إذا ادعى أنه قتله ، ولم يقم على ذلك بينة ، فقال الأوزاعي : يعطاه بمجرد دعواه ، وجمهور العلماء على أنه لا بد من بينة على أنه قتله ، قال مقيده عفا الله عنه : لا ينبغي أن يختلف في اشتراط البينة لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح " من قتل قتيلا له عليه بينة " الحديث ، فهو يدل بإيضاح على أنه لا بد من البينة ، فإن قيل : فأين البينة التي أعطى بها النبي صلى الله عليه وسلم أبا قتادة سلب قتيله السابق ذكره .

                                                                                                                                                                                                                                      فالجواب من وجهين : الأول : ما ذكره القرطبي في " تفسيره " ، قال : سمعت شيخنا الحافظ المنذري الشافعي أبا محمد عبد العظيم ، يقول : إنما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة الأسود بن خزاعي ، وعبد الله بن أنيس ، وعلى هذا يندفع النزاع ، ويزول الإشكال ، ويطرد الحكم . اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أنه أعطاه إياه بشهادة الرجل الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " صدق ، سلب ذلك القتيل عندي " ، الحديث ، فإن قوله " صدق " شهادة صريحة لأبي قتادة أنه هو الذي قتله ، والاكتفاء بواحد في باب الخبر ، والأمور التي لم يقع فيها ترافع قال به كثير من العلماء ، وعقده ابن عاصم المالكي في تحفته بقوله : [ الرجز ]


                                                                                                                                                                                                                                      وواحد يجزئ في باب الخبر


                                                                                                                                                                                                                                      واثنان أولى عند كل ذي نظر

                                                                                                                                                                                                                                      وقال القرطبي في " تفسيره " :

                                                                                                                                                                                                                                      إن أكثر العلماء على إجزاء شهادة واحد ، وقيل : يثبت ذلك بشاهد ويمين ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما على قول من قال : إن السلب موكول إلى نظر الإمام ، فللإمام أن يعطيه إياه ، [ ص: 90 ] ولو لم تقم بينة ، وإن اشترطها فذلك له ، قاله القرطبي ، والظاهر عندي أنه لا بد من بينة لورود النص الصحيح بذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف العلماء في السلب ما هو ؟

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده عفا الله عنه : لهذه المسألة طرفان ، وواسطة :

                                                                                                                                                                                                                                      طرف أجمع العلماء على أنه من السلب : وهو سلاحه ، كسيفه ، ودرعه ، ونحو ذلك ، وكذلك ثيابه .

                                                                                                                                                                                                                                      وطرف أجمع العلماء على أنه ليس من السلب : وهو ما لو وجد في هميانه ، أو منطقته دنانير . أو جواهر ، أو نحو ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وواسطة اختلف العلماء فيها : منها فرسه الذي مات وهو يقاتل عليه ، ففيه للعلماء قولان : وهما روايتان عن الإمام أحمد ، أصحهما أنه منه ، ومنها ما يتزين به للحرب ، فقال الأوزاعي : ذلك كله من السلب ، وقالت : فرقة ليس منه ، وهذا مروي عن سحنون إلا المنطقة ، فإنها عنده من السلب ، وقال ابن حبيب في الواضحة ، والسواران من السلب ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن حديث عبد الله بن عمر المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية قبل نجد ، وفيهم ابن عمر ، وأن سهمانهم بلغت اثني عشر بعيرا ، ونفلوا بعيرا بعيرا - دليل واضح على بطلان قول من قال : " لا تنفيل إلا من خمس الخمس " ; لأن الحديث صريح في أنه نفلهم نصف السدس .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا شك أن نصف السدس أكثر من خمس الخمس ، فكيف يصح تنفيل الأكثر من الأقل ، وهو واضح كما ترى ، وأما غير ذلك من الأقوال ، فالحديث محتمل له .

                                                                                                                                                                                                                                      والذي يسبق إلى الذهن ، أن ما ثبت في " صحيح مسلم " من حديث ابن عمر بلفظ : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسم عامة الجيش ، والخمس في ذلك واجب كله اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      يدل على أن ذلك التنفيل من الغنيمة بعد إخراج الخمس ، وهو ما دل عليه حديث حبيب بن سلمة المتقدم ، وهو الظاهر المتبادر خلافا لما قاله ابن حجر في " الفتح " من أنه محتمل لكل الأقوال المذكورة ، والله تعالى أعلم . \

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية